وكالات الاستخبارات الأميركية: إما التكيّف أو الفشل

  • 10/27/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لم يعد شن الهجمات الإرهابية على أرض الواقع القضية الوحيدة التي تثير قلق الاستخبارات الأميركية، بل انضافت إليها تهديدات جديدة بحكم عصر التقدم الرقمي على رأسها تعزيز الخصوم لقدراتهم من خلال مواكبة التطور التكنولوجي، وهو ما وضع الذكاء الاستخباراتي الأميركي قيد الاختبار. ويبدو احتمال التدخل الخارجي في الشأن الداخلي للولايات المتحدة عبر التلاعب بالشبكات الاجتماعية -على غرار التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لعام -2016 من بين أبرز الملفات التي تحظى باهتمام المسؤولين والخبراء في وكالة الاستخبارات المركزية. واشنطن - أعلنت لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي، في سنة 2018، أن تحقيقها كشف عن دور روسي في التلاعب بمنافذ وسائل التواصل الاجتماعية للتدخل في انتخابات سنة 2016 وبلبلة المجتمع الأميركي. وقالت إن حجم التدخل تجاوز ما وجده مجتمع الاستخبارات الأميركي في 2017. وتأتي النتيجة التي أعلنت عنها اللجنة الأميركية لترسم وجها جديدا للمعارك، حيث يقول الباحثان مايكل موريل وآمي زيغارت “لا نعلم ما إذا كان الكرملين قد ساهم في زعزعة التوازن في سباق رئاسي متقارب. لكننا نعلم عجز المخابرات الأميركية في اكتشاف أن روسيا تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي منذ مدة طويلة”. ويضيفان أن “هذا الفشل يعدّ مجرد مقدمة لما ينتظرنا في المستقبل إذا لم يتكيف مجتمع الاستخبارات مع التطورات التكنولوجية السريعة”. ويقدم الباحثان تحليلا موسعا، نشر في مجلة “فورين أفيرز”، يبرز كيف كان الخداع جزءا دائما من التجسس والحرب، ولكنه لم يصل يوما إلى هذا المستوى من الدقة والانتشار والسرعة. بدأ القرن الحادي والعشرين بصدمة لأجهزة الاستخبارات الأميركية، إذ اختطف 19 فردا من المنتمين إلى القاعدة أربع طائرات وشنوا واحدة من أكثر الهجمات دموية في تاريخ الولايات المتحدة. إثر هذا الهجوم العنيف، توجه تركيز مجتمع الاستخبارات إلى هدف جديد: منع حدوث هجوم مشابه لذلك الذي استهدف الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر. عملت وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي وغيرهما من مكونات مجتمع المخابرات الأميركي الـ15 على إعادة هيكلة الجهاز وإصلاحه ومده بالتجهيزات التي تتطلبها عملياته. وخصص الكونغرس مليارات الدولارات لدعم هذا التحرّك. آتت هذه الجهود أكلها؛ فخلال مدة تكاد تصل العشرين سنة ركزت وكالات الاستخبارات الأميركية على محاربة الإرهابيين، ونجحت في إحباط العديد من الخطط التي تشمل مهاجمة التراب الأميركي، كما تمكنت من تحديد مكان أسامة بن لادن، وساعدت في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، ووجدت الإرهابيين الذين كانوا يختبئون في الكهوف الأفغانية وحتى المنازل في بروكسل. ومثّلت هذه المدة واحدة من أنجح الفترات في تاريخ الاستخبارات الأميركية. لكن الأمور تغيرت، ففي مواجهة التهديدات الجديدة التي تتجاوز الإرهاب، تلقّت وكالات الاستخبارات الأميركية صدمة أخرى. من التكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا النانو إلى الحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي، منحت التطورات التكنولوجية السريعة خصوم الولايات المتحدة قدرات جديدة وقوضت مزايا الذكاء التقليدي الذي تعتمده مخابراتها. ويرى مايكل موريل وآمي زيغارت أن مجتمع الاستخبارات الأميركية يجد نفسه اليوم أمام ضرورة التكيف مع هذه التحولات إذا لم يرد أن يفشل بصفته خط الدفاع الأول للبلاد. تقدمت وكالات الاستخبارات الأميركية بعض الخطوات في الاتجاه الصحيح، إلا أنها تتحرك بنسق بطيء، حيث فشلت في فهم استخدامِ روسيا وسائلَ التواصل الاجتماعي للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية سنة 2016. يجب أن يمثّل هذا الفشل صفعة كافية لإيقاظ الجهاز. تتطلب التدخلات الروسية في الانتخابات إعادة تحليل كاملة لتحديد كيفية عمل مجتمع الاستخبارات. وسيتوجب تحقيق ذلك استغلال نقاط القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، وإعادة بناء الثقة مع شركات التكنولوجيا الأميركية. استخبارات لا غنى عنها ترسم التقييمات السنوية الأخيرة للتهديدات التي يصدرها مكتب مدير الاستخبارات القومية الأميركية صورة مفزعة عن المخاطر العالمية: ارتفاع المنافسة بين القوى العظمى وخاصة الصين وروسيا، ترسانات نووية في كوريا الشمالية وعلى طول الحدود الهندية الباكستانية، الفوضى داخل الشرق الأوسط وزيادة التطرف، النظام الدولي المتضرر، المستبدون المنتشرون من أوروبا إلى آسيا. وتواجه وكالات الاستخبارات الأميركية تحديات جديدة بسبب التطور الذي يشهده المجال التكنولوجي. ويستدل الباحثان زيغارت وموريل على هذا التطور من خلال المقارنة بين تقييم التهديدات السنوي لسنة 2007 وتقييم سنة 2009. في التقييم الأول يرصد الباحثان غياب كلمة “الإلكتروني”. لكن في سنة 2009، ذكر هذا المصطلح في الصفحة الـ38 من الوثيقة المؤلفة من 45 صفحة، أسفل قسم الاتجار بالمخدرات في غرب أفريقيا. وبحلول سنة 2012، حذر وزير الدفاع الأسبق، ليون بانيتا، من خطر “هجمات بيرل هاربور الإلكترونية” التي يمكن أن تدمر البنية التحتية الحيوية في الولايات المتحدة دون سابق إنذار. أسرار مفتوحة اليوم تشن مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة ملايين الهجمات الإلكترونية في مختلف أنحاء العالم يوميا. وتجاوزت عائدات الجرائم الإلكترونية تلك المجموعة من تجارة المخدرات غير القانونية. يعني الجمع بين التقنيات الجديدة والعدد المتزايد للتهديدات وتعقيدها وسرعتها المزيد من الخطر على الولايات المتحدة، والمزيد من المهام التي يجب على وكالات استخباراتها تنفيذها. في العالم المادي، تتمثّل العديد من الأهداف العسكرية في المباني التي لا تتحرك. يمكن أن يتأكد المخططون من توظيف قنبلة ذات قوة كافية ستدمر أي مبنى في دائرة الانفجار، بغض النظر عن عدد النوافذ أو ما إذا كانت الجدران مصنوعة من الخرسانة أو من الخشب. ليس الأمر بهذه البساطة في الفضاء الإلكتروني، حيث تحولت الأهداف إلى آليات أو أنظمة تتغير باستمرار. ويمكن أن تجعل التعديلات الخفيفة التي تُجرى على هدف معيّنٍ (مثل إصلاح خطأ بسيط في البرمجة) السلاحَ الموجه ضده غير فعال. نتيجة لذلك، تتطلب القوائم المستهدفة تحديثا مستمرا حتى تظل مفيدة. من التكنولوجيا الحيوية إلى الذكاء الاصطناعي تمنح التطورات التكنولوجية خصوم الولايات المتحدة قدرات جديدة وتقوض مزايا الذكاء التقليدي الذي تعتمده مخابراتها تعتبر التطورات الحاصلة في التكنولوجيا سلاحا ذا حدين. ويشير مايكل موريل وآمي زيغارت إلى أنه يمكن لأي تطور تقني أن يقوّي الخصوم، مما يقوض الدفاعات الموجودة. ويقدّم انفجار المعلومات نتيجة توصيل المزيد من الأجهزة الذكية بالإنترنت أفضل مثال على مخاطر التكنولوجيا الجديدة. وأصبح أكثر من نصف سكان العالم متصلين بالإنترنت. ووفقا لبعض التقديرات، سينمو عدد الأشخاص الحاملين للهواتف الجوّالة ليتجاوز عدد الأشخاص الذين يتمتعون بمياه الشرب في السنة المقبلة. ويعمل هذا الارتباط بالإنترنت على تحويل المواطنين العاديين إلى جامعي معلومات استخباراتية حتى وإن كانوا غير راغبين في ذلك. ويلفت الباحثان إلى أنه بات بإمكان الهواتف المحمولة تسجيل الأحداث بالفيديو وتسجيل الأنشطة الزلزالية التي من شأنها أن تدل على التجارب النووية تحت الأرض، مباشرةً. كما تلتقط كاميرات المراقبة الكثير مما يحدث في مدن العالم. وتعرض المنصات الاجتماعية ومحركات البحث ومنافذ البيع عبر الإنترنت قدرا كبيرا من المعلومات. بالنسبة إلى المحللين، يشكّل كل هذا كنزا من المعلومات. وتشير دراسة فورين أفيرز إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مصدرا قيما للمعلومات إلى درجة أن وحدات التحكم في مركز القيادة النووية الأميركي تحت الأرض عملت على عرض التغريدات المنشورة على تويتر إلى جانب المعلومات السرية. عيون مراقبة يشير الباحثان إلى أنه عندما داهمت قوات البحرية الأميركية مجمع أسامة بن لادن في أبوت آباد في باكستان سنة 2011، لم يكتشف الجيش الباكستاني العملية، لكن موقع تويتر نقل وقائع العملية مباشرة. ونشر مهندس في تكنولوجيا المعلومات تلك الأحداث دون أن يعرف ماهيتها وهوية أطرافها. وذكر صهيب أطهر، على صفحته في موقع تويتر عن تحليق مروحية في سماء أبوت آباد، أن الأمر نادر الحدوث. وكتب “وقع انفجار كبير واهتزت النوافذ”. توصف الأقمار الصناعية بأنها عيون مراقبة في السماء. وقبل حوالي عقد من الزمان، سيطرت الولايات المتحدة وروسيا على سوق الفضاء بمجموعة من الأقمار الصناعية الكبيرة المصممة للتجسس. ثم انضمت الصين إلى هذه المجموعة. وخلال السنوات الخمس الأخيرة تضاعف عدد البلدان التي تمتلك الأقمار الصناعية وتديرها. وزادت عمليات الإطلاق السنوية بنسبة 400 بالمئة. وأصبح أصحاب الأقمار الصناعية غير المكلفة يقدمون الصور والتحليلات للزبائن المستعدين للدفع في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من التباين بين قدرات هذه الأقمار وقدرات الحكومة الأميركية وأقمارها الصناعية، فإن هذه الأقمار تتحسن يوما بعد يوم. يقول مايكل موريل وآمي زيغارت “بينما كان على وكالات الاستخبارات العثور على الإبر في أكوام القش، اليوم تنمو أكوام القش بسرعة”، مشيرين إلى أنه في العصور الوسطى عندما كان الورق علامة على الثروة ودمعت الكتب في الدير، كانت المعرفة قيّمة وإنتاجها مكلفا. لكن، اليوم يعدّ إنشاء المحتوى أمرا رخيصا جدا، حيث تشير بعض التقديرات إلى تضاعف كمية البيانات المخزنة كل عامين. في هذه البيئة المتغيرة السريعة، يضطر محللو الاستخبارات إلى التحرك بشكل أسرع، على حساب البحث الأعمق. كما قد تؤدي المنافسة مع المصادر المفتوحة إلى تفاقم الضغوط التي يتعرض لها المحللون مما يدفعهم إلى تشكيل تقييمات استخباراتية قصيرة الأجل بدلا من التحليل الأطول الذي يدرس الآفاق. وسيصبح فصل الحقيقي عن المزيف أكثر صعوبة، إذ سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى ثورة الخداع. ويشير الباحثان إلى أن المعلومات الروسية المضللة قبل انتخابات سنة 2016 تبدو بسيطة مقارنة بما سيكون ممكنا في المستقبل القريب، وبعد أن أصبح التلاعب بالمواد الصوتية أو المرئية ممكنا بالديب فايك. وصممت هذه التكنولوجيا لتبدو المعلومة حقيقية قدر الإمكان. وستواجه وكالات الاستخبارات مهمة شاقة في فضح التزييف. وعلى عكس التزويرات الأخرى، مثل الصور المركبة، يصعب اكتشاف التزوير العميق بفضل تقنية الذكاء الاصطناعي التي ابتكرها أحد مهندسي غوغل في سنة 2014. ويعرف النهج باسم “شبكات الخصومة التوليدية”، حيث تعمل خوارزميات الكمبيوتر ضد بعضها البعض. الاستراتيجية الصحيحة تلفت الدراسة إلى أن مجتمع الاستخبارات الأميركي اتخذ بعض الخطوات المهمة للتكيف مع المشهد التكنولوجي المتغير بسرعة. ففي سنة 2015 أنشأ المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية جون برينان مجلسا إداريا جديدا يركز على الابتكار الرقمي وأصلح هيكل الوكالة لتقريب المتخصصين الرقميين وضباط المخابرات الذين يتعاملون مع المعلومات مفتوحة المصدر مع محللي الوكالة التقليديين. كما أعدّت الوكالة الوطنية الأميركية للاستخبارات الجغرافية المكانية مبادرة تعتمد الذكاء الاصطناعي لتسريع تحليل الصور. وانتقلت وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي والوكالات الأخرى إلى سحابات التخزين مما خلق بيئة تمكن من دمج البيانات، ما يسمح للمحللين بالوصول إلى كميات كبيرة من المعلومات بطريقة أسرع وأكثر فاعلية. وتبقى عدة تحسينات أخرى سرية. تعدّ هذه جهود واعدة، لكن الإصلاحات الفردية لم تعد كافية، حيث يحتاج مجتمع الاستخبارات إلى إستراتيجية شاملة لاستعادة التفوق في الاستخبارات والحفاظ على تفوقه في عصر تكنولوجي جديد.

مشاركة :