يجد خريجو الجامعات في تونس أنفسهم في مواجهة البطالة بعد الحصول على شهائدهم العلمية، وتتضاعف أمامهم الأعباء بمجرد التفكير في انتظارات عائلاتهم من تعليمهم ليصدموا بمرور فترة من التخرج والبطالة بمراسلات رسمية بوجوب سداد واستخلاص القروض الجامعية، التي منحت لهم من الدولة، وإلا يتم استخلاصها من رواتب أولياء أمورهم. تونس - يحاصر شبح البطالة نسبة هامة من أصحاب الشهائد العليا بتونس ويشكلون النسبة الأعلى من عموم العاطلين عن العمل، حيث تعجز سوق العمل عن استيعابهم وتقلّ فرص الشغل أمامهم، ويحصل المحظوظون منهم بصعوبة على وظيفة، وإن وجدوها فهي في أغلب الحالات إما خارج اختصاصهم وإما بلا ضمانات وبأجر بسيط. وما يزيد تعميق أزمتهم أن أقساط القروض الجامعية، التي حصلوا عليها ليستعينوا بها على تكاليف التعليم العالي، التي غالبا ما يعجز أولياء أمورهم كموظفين برواتب متواضعة على تغطيتها لمواصلة مشوراهم الدراسي، تستوجب التسديد، وأن كل تأخير يضاعف حجمها، مما يستدعي في نهاية الأمر الوصول لإجراء الحجز على مرتبات أولياء أمورهم، لتزيد من تضييق الخناق عليهم. وتصبح القروض، التي مثّلت للكثير من الطلاب الجامعيين مخرجا من الأزمات المالية أيام الدراسة الجامعية، مأزقا حقيقيا يجب الخروج منه بأخف الأضرار، وإلا فإن شبح التداين سيخيّم عليهم من جديد، ويرهن مصائرهم وراحة العائلة المادية. وتتداخل أطراف عديدة في عملية منح القرض الجامعي واسترجاعه في تونس. وتسند دواوين الخدمات الجامعية وصندوقا الضمان الاجتماعي والتقاعد والحيطة الاجتماعية القروض للطلاب الدارسين بالجامعات التونسية من أبناء الموظفين ذوي الرواتب القارة في القطاعين الحكومي والخاص. ولكن البطالة وصعوبة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد جعلتا من سداد القروض الجامعية عبئا ثقيلا على خريجي الجامعات وعلى الدولة التي تلتجئ إلى الحجز على رواتب أولياء الأمور، باعتبارهم الضامن ليتمتع أبناؤهم بالقرض،الذي كلما تأخر سداده ارتفعت الضرائب المستوجبة عليه. وبداية من العام الدراسي 1999–2000 أصبحت القروض الجامعية تُسند بالأساس من قبل صناديق الضمان الاجتماعي، ويقتصر تدخّل دواوين الخدمات الجامعية في هذا المجال على إسنادها إلى الطلبة أبناء رجال التعليم وطلبة الماجستير. المتخرج يكابد ليجد عملا يمكّنه من سداد ديونه وبناء مستقبله ليجد نفسه وعائلته في مواجهة مشكلة القرض الجامعي، ويضطر حينها للقبول بأيّ عمل وللتضحية بطموحاته وتقوم دواوين الخدمات الجامعية سنويا بإسناد قروض جامعية إلى الطلبة أبناء رجال التعليم من (أساتذة، معلمين، قيمين، وموظفي وعملة وزارتي التربية والتعليم العالي) في حدود الحصص المتفق عليها مع نقابات التعليم. أما طلبة الماجستير فيقع إسنادهم قروضا جامعية تتجاوز الدخل السنوي الصافي لأوليائهم أي؛ الدخل السنوي المهني المضمون بعد طرح الأعباء الاجتماعية. وقد نظّم الأمر الحكومي عدد 369، الصادر في 15 مارس 2017، مسألة إسناد القروض الجامعية من قبل الصندوقين الاجتماعيين (التقاعد والحيطة الاجتماعية والضمان الاجتماعي) لتصبح قيمة القرض معادلة لقيمة المنحة الجامعية (500 دينار) التي تصرفها الدولة، وتصبح نسبة الفائدة الموظفة على القرض 3 بالمئة بعد أن كانت 5 بالمئة. وجاء الأمر الحكومي المذكور لينقح الأمر عدد 1544 لسنة 1999 المتعلق بإسناد القروض الجامعية، ووظّف نسبة أداء جديدة على نسبة الفائدة تساوي 1 بالمئة تدفع في صورة الانقطاع على السداد لأي سبب من الأسباب، وتوظف على الجزء الذي حلّ أجله ولم يتم دفعه. كما تسند دواوين الخدمات القروض إلى الطلبة الدارسين بالجامعات التونسية. ولا يمكن للطالب أن يحصل إلا على قرض جامعي واحد إما من الدواوين الجامعية وإما من الصندوقين الاجتماعيين، وفق ما أكده حسني البجاوي المكلف بالقروض الجامعية بديوان الخدمات الجامعية للشمال في تصريح لـ”العرب”. أداء على الفائدة تتراوح قيمة القرض الذي يسنده ديوان الخدمات الجامعية بين 600 و800 دينار لطلاب الإجازة، وتصل إلى حدود 1400دينار لطلاب السنة الثانية ماجستير، ولا يحصل طلبة الدكتوراه على قروض جامعية، وفق ذات المصدر. وبلغ عدد القروض التي أسندها ديوان الخدمات الجامعية للشمال العام الماضي 1200 قرض جامعي على دفعات، يمتع بها طلبة الإجازة والماجستير. وقال حسني البجاوي لـ”لعرب” إن ديوان الخدمات الجامعية يرسل قائمة بأسماء الطلبة المنتفعين بالقروض إلى وزارة التعليم العالي، التي ترسلها بدورها إلى وزارة المالية بغاية استرجاعها من الطلبة بعد مباشرتهم لعملهم ليتم ضخ أموالها بخزينة الدولة. وساهم توظيف نسبة أداء جديدة على نسبة الفائدة في تعقيد عملية الاستخلاص على الطلاب وعلى أولياء أمورهم باعتبارهم الضامن لحصول أبنائهم على القروض طيلة فترة دراستهم الجامعية، والقائمين على سدادها أيضا. تقول زهرة فضلي، خريجة كلية الإعلام وعاملة بمؤسسة خاصة، “حصلت على قرض جامعي في الفترة الدراسية الممتدة من 2002 إلى 2006، وطالت مدة استخلاصه لأنني لم أحصل على عمل منذ تخرجي، مما أدى إلى مضاعفة قيمته”. وتضيف “قام والدي بسداد مبلغ القرض على امتداد 10 سنوات، وصادف أن تم الحجز على راتبه لوجوب دفع النفقة لطليقته، فاضطررت إلى الاقتراض حتى أسدد الجزء الذي حلَّ أجله كي لا أبقى عرضة للتتبعات العدلية”. وتردف “دخلت في دوامة من التداين لا تنتهي، وأصبحت أقبل بأيّ عمل حتى ولو كان لفترة قصيرة حتى أجمع المال وأسدد ديوني”. وتشير زهرة إلى أن هناك تلاعبا في سداد أقساط القروض من طرف الصناديق الاجتماعية، الأمر الذي يجعل مدة سداده تطول. بدورها تؤكد رنيم الدريدي، خريجة شعبة الاقتصاد سنة 2017، أنها لم تحصل على عمل إلى حدود هذا التاريخ، مشيرة إلى قرب حلول آجال سداد قسط القرض الجامعي الذي حصلت عليه قبل التخرج. وتضيف “أقساط القروض الجامعية أقضت مضجعي وحرمتني النوم”. وتردف “أنا من عائلة متوسطة الدخل ولا وساطات لي حتى أحصل على عمل، فكيف سأسددها؟”. وتتساءل هل منحتنا الدولة القرض لتجبرنا على سداده ونحن دون عمل؟ وإذا لم نحصل على عمل بعد سنتي الإمهال كيف سنتصرف؟ فهل الاقتطاع من راتب الولي هو الحل الأمثل؟ وتشير رنيم إلى أن أغلب الطلبة الحاصلين على قروض جامعية يعانون الإشكال نفسه. ومن جهته أكد محمد علي التومي، وهو أب لثلاثة أبناء يزاولون دراستهم بالجامعة، أنه استسهل عملية حصول أبنائه على قروض جامعية، لأنه لا يمكنهم الحصول على منحة، باعتبار أن دخله يتجاوز الدخل السنوي المهني المضمون بعد طرح الأعباء الاجتماعية. وتابع التومي ما إن أسدد قسط القرض الأول حتى ينهال عليّ القسطان الثاني والثالث، مشيرا إلى أن أحد القروض يعود إلى ما قبل العام 2017. وأضاف مبالغ القروض الثلاثة، إضافة إلى بقية مستلزمات الدراسة، أرهقتني وأثرت على ميزانية الأسرة، وأخشى أن أُحال على التقاعد قبل أن أسدد ديوني. ونصح التومي الآباء بألّا يثقلوا كواهلهم بالقروض حتى لا يجدوا أنفسهم تحت طائلة دوامة التداين، خاصة وأن كل تأخير يقابله ارتفاع في نسبة الفائدة. تلكؤ في الاستخلاص بدوره اعتبر الهادي الطويل، المدير المساعد بإدارة الاستخلاص بالصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، أن الإشكالين اللذين تواجههما المؤسسة في استخلاص القروض يكمنان في تأخير المدين في سداد أقساط القرض، مشيرا إلى أن كل تأخير توظف عليه نسبة فائدة جديدة، وبالتالي تتراكم مبالغ القروض إذا كان لولي الأمر أكثر من طالب تحصّل على قرض جامعي. وأردف الطويل لـ”العرب” بعد عامين من الحصول على آخر قرض يفترض أن يبدأ الطالب في سداد أقساط القرض، لكن إذا واصل دراسته أو إذا لم يحصل على عمل بعد سنتي الإمهال يصبح الأمر معقدا، ونلتجئ إلى راتب الولي لنقتطع منه القسط اللازم. ويضيف، في الكثير من الأحيان ينسى المنتفع بالقرض آجال سداد الدين وتتراكم الأقساط، مما يجعل فترة سدادها تطول. ويشير إلى أن قيمة القروض المستخلصة من رواتب أولياء الأمور بلغت 1.115 مليون دينار في العام 2016، ومن الجرايات 4.081 مليون دينار، ومن منح الوفاة 0.217 مليون دينار، في حين كانت المبالغ المقتطعة من الرواتب تساوي 0.256 مليون دينار، و من الجرايات 0.2414 مليون دينار، ومن منح الوفاة 0.159 مليون دينار، في عام 2018 . وأكد الطويل تراجع حجم القروض الجامعية المسندة إلى الطلاب نظرا إلى وعي الآباء بارتفاع النفقات المستوجبة في مسألة سدادها، مشيرا إلى أن الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، قد بادر منذ بداية يناير الماضي في استخلاص القروض الجامعية المسندة إلى المنتفعين وفق التراتيب والقوانين الجاري بها العمل. كما كان قد وجّه مراسلات في الغرض في مناسبتين سابقتين خلال شهري سبتمبر وأكتوبر من عام 2018، دعا فيهما المعنيين بهذا الإجراء إلى تسديد مبالغ القروض غير المستخلصة قبل الشروع في الحجز على الجرايات. وقال الطويل، بحكم تصرف صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية في 80 بالمئة من رواتب الفئة العاملة في القطاع العمومي، فإن عملية استخلاص القروض تعتبر أسهل بالنسبة إليهم من صندوق الضمان الاجتماعي. وتؤكد الإحصائيات صعوبة استرجاع مصالح صندوق الضمان الاجتماعي للقروض المسندة إلى عدد كبير من الطلاب، حيث تحصّل 8 آلاف طالب على القرض الجامعي طيلة مزاولة دراستهم بالمعاهد والكليات في تونس وخارجها، ثم التحقوا للعمل بالقطاع الخاص، ولكنهم لم يقوموا بتسديد ما تخلّد بذمتهم من ديون. وقامت المؤسسة في مرحلة أولى بإعلام المتخلفين من الطلاب بصفة ودية، طالبة منهم استرجاع تلك الأموال التي أخذوها كقروض جامعية، إما دفعة واحدة أو حسب جدولة يقع ضبطها من طرف الإدارة، وتراعى فيها ظروف المنتفع. وقد استجاب للغرض عدد قليل من الطلاب، وسددوا ما بذمتهم من ديون تراوحت قيمتها بين 400 دينار و2800 دينار في السنة، في حين لم يستجب البقية. وأمام تزايد أعدادهم تحوّل الصندوق إلى الإجراء الجبري وهو الحجز على الرواتب، لكن رغم ذلك مازالت هنالك صعوبات تعترض الدولة في استخلاص قروض الطلبة الذين التحقوا بالقطاع الخاص؛ إما لتغير مقر عملهم من شركة إلى أخرى، أو لعدم قيام المؤسسات المشغّلة لعمليات الخصم لصاحب القرض، الذي لم يدفع ما بذمته من ديون . مشكلة شاملة لا تقتصر مشاكل الشباب حاملي الشهائد العليا مع القروض الجامعية على الخريجين التونسيين بل إنها تكاد تكون مشكلة يعاني منها غالبية الشباب ممن لا يعملون والمتخرجون من الجامعات، فالمتخرج يكابد ليجد عملا يمكّنه من سداد ديونه وبناء مستقبله ليجد نفسه وعائلته في مواجهة مشكلة القرض الجامعي، ويضطر حينها للقبول بأيّ عمل وللتضحية بالعديد من الطموحات من أجل الخلاص. وفي الأردن مثلا عادت قضية تراكم القروض الجامعية على أعداد من الطلبة المستفيدين من صندوق دعم الطالب الجامعي إلى الواجهة، بعد تصاعد المطالبات النيابية والطلابية بإعفاء الطلاب ممن تراكمت عليهم ديون الصندوق، وذلك في ظل عمل مجلس النواب على مناقشة وإقرار قانون العفو العام، الذي لم يشكل بأحكامه ديون صندوق دعم الطالب. يأتي ذلك، في وقت كشف فيه أمين عام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أن حجم القروض المقدمة من صندوق دعم الطالب الجامعي والمستحقة للسداد بلغ 52 مليون دينار، سدد منها 23 مليونا ليتبقى 29 مليون دينار دون سداد. وتبقى مسألة إرجاع القروض الجامعية لمن تتوفر لديه الإمكانيات ووجد عملا من الخريجين، مرتبطة بمدى وعي المنتفعين بها بضرورة سدادها حتى يتمكن غيرهم من الطلاب من الانتفاع بها، وحتى لا تضطر الدولة للحجز على رواتبهم أو رواتب وجرايات أولياء أمورهم.
مشاركة :