لقد أحب هذا البلد الجميل أولئك الذين زاروه أيام عزه، واستمتعوا بسلمه، وطيب مناخه، وجمال طبيعته، وعرفوا كرم أهله، كما أحبه الذين لم يزوروه، ولكن عرفوه من خلال أدبه وفنه وحضارته العريقة، ومن خلال أبنائه الذين هاجروا إلى جهات العالم الأربع، ومثلوا لبنان خير تمثيل، حتى أصبح عددهم أكبر من عدد المقيمين فيه. ورغم هذه الهجرات التي بدأت منذ أيام الفينيقيين، والتي فرضتها على شعبه الحروب والنزاعات التي تعرض لها لبنان على مر العصور، فقد ظل اللبنانيون أوفياء لوطنهم، يحبونه في مهاجرهم مثلما يحبونه وهم بين أحضان بحره وسهله وجبله، وربما فاق حبهم له وهم في غربتهم عنه حبهم وهم مقيمون فيه، لأن البعد عن الأوطان يشعل في قلب محبيها الحنين إليها. وقد كان تأثير اللبنانيين في ثقافات وآداب وفنون البلدان التي هاجروا إليها واضحاً، وظلت المدرسة اللبنانية تنشر بصمتها في كل مكان وكل مجال؛ من الشعر والأدب إلى المسرح والسينما، ومن الصحافة والإعلام إلى الموسيقى والغناء. حتى الطعام فرضت الثقافة اللبنانية عليه نفسها، فأصبح المطبخ اللبناني واحداً من أشهر المطابخ العالمية. وخرج من أبناء وأحفاد المهاجرين اللبنانيين رؤساء دول وحكومات ووزراء وعلماء وفنانون، لمعت أسماؤهم في الدول التي هاجروا إليها، ربما لم يروا لبنان، ولكن تكشف عن أصولهم اللبنانية أسماؤهم وسحناتهم العربية. كما برع اللبنانيون في مجال الاقتصاد، حتى سُمّي لبنان في فترة من الفترات «سويسرا الشرق» لقوة وثبات مركزه المالي وتنوعه. واستقطب لبنان خلال فترة ازدهاره أعداداً هائلة من السياح، حتى أُطلِق على بيروت «باريس الشرق» لكثرة السياح الذين كانوا يقصدونها. لقد بقي لبنان عبر التاريخ مطمعاً لكل البلدان القريبة منه والبعيدة عنه، وتعرض لغزو حضارات مختلفة، فغزاه المصريون القدماء والآشوريون والفرس والإغريق والرومان والروم البيزنطيون والصليبيون والأتراك العثمانيون والفرنسيون. لذلك تعددت ثقافات شعبه، واستطاع أن يكوّن من هذه الحضارات مزيجاً فريداً، مستفيداً من موقعه الجغرافي المتوسط بين الشمال الأوروبي والجنوب العربي والشرق الآسيوي والغرب الأفريقي. ومثلما كان هذا الموقع سبباً في تنوع ثقافات شعبه، كان أيضاً سبباً لأزمات وصراعات كثيرة وقعت على أرض لبنان، لم يكن له في بعضها ناقة ولا جمل، فقد اتخذت أنظمة ودول عدة من لبنان ساحة لمعاركها، وشهدت أرضه تصفية حسابات واغتيالات دموية مرعبة. وقد شكلت الحرب الأهلية اللبنانية، التي بدأت عام 1975 وانتهت باتفاق الطائف عام 1989 نقطة تحول كبرى في تاريخ لبنان وحياة اللبنانيين. وجاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ليصب مزيداً من الزيت على النار التي كانت مشتعلة في الأرض اللبنانية. وشكلت هيمنة «حزب الله» على مفاصل القرار في لبنان عائقاً أمام انتخاب الرؤساء وتشكيل الحكومات، وجعلت القرار اللبناني مرهوناً للمرجعية الدينية في إيران، لإيمان أمين عام الحزب بولاية الفقيه. لقد دخل اللبنانيون نفقاً مظلماً لم يخرجوا منه منذ أكثر من أربعة عقود، ظهرت خلالها أجيال لم تعرف لبنان الذي عرفناه خلال مسرحيات «بياع الخواتم» و«ست الكل»، ومسلسلات «حول غرفتي» و«عازف الليل»، وأصوات فيروز ووديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين وماجدة الرومي وملحم بركات ومارسيل خليفة وجوليا بطرس، وموسيقى توفيق الباشا وسليم سحاب وإحسان المنذر، وأفلام «بنت الحارس» و«أيام اللولو»، ورقصات فرقة كركلا في «اليوم وبكرة ومبارح» و«أليسار ملكة قرطاج»، ومهرجانات بعلبك وبيت الدين وبيبلوس. لبنان الذي عرفناه في أشعار سعيد عقل وجورج جرداق ومنصور وعاصي الرحباني، وروايات أمين معلوف وحنان الشيخ وعلوية صبح، وقائمة الشعراء والأدباء والمفكرين اللبنانيين الطويلة التي يضيق المجال عن حصرها. لقد نجح زعماء الطوائف والسياسيون وأمراء الحروب في إخفاء وجه لبنان الحقيقي، وصنعوا لنا وجهاً لا يشبه لبنان وجوهر شعبه النقي. واليوم ينتفض اللبنانيون من أجل كرامتهم التي انتهكها السياسيون ورؤساء الأحزاب وزعماء الطوائف المتضخمة بطونهم وجيوبهم وأرصدتهم المصرفية؛ من رهن منهم القرار لمصلحته الشخصية، ومن رهنه منهم لأجندته الخاصة، ومن رهنه لدول خارجية تسعى إلى فرض نفوذها وسيطرتها، ليس على لبنان فقط، وإنما على المنطقة كلها، بعد أن ظن وكلاؤها أنهم ممثلو الإرادة الإلهية على أرض لبنان والوطن العربي كله. لقد أثبت اللبنانيون الذين نزلوا إلى الشوارع خلال الأيام الماضية أنهم وعوا الدرس جيداً، وأن الزعماء والسياسيين الذين خدعوهم طوال السنوات الماضية فقدوا بريقهم ومصداقيتهم، ولم يعودوا قادرين على خداعهم من جديد. وكان أجمل ما في المشهد توحد الشعب الثائر بأطيافه المختلفة تحت العلم اللبناني، بعيداً عن الانتماءات الدينية والطائفية والعرقية التي فرضها عليه السياسيون وزعماء الطوائف والأحزاب طوال السنوات الماضية. وإذا كان البعض ما زال يعتقد أنه يستطيع تهديد هذه الجموع التي نزلت إلى الشارع موحدة صفها ضد الفساد السياسي والمالي وإرهابها فهو واهم، لأن من ثار انتصاراً لكرامته كاسراً جدار الخوف، فاتحاً صدره لنسيم الكرامة والحرية، لا يستطيع زعيم طائفة أو رئيس عصابة أن يرهبه أو يهدده أو يثنيه عن ثورته. سيعود «لبنان الكرامة والشعب العنيد» أجمل مما كان.. وسيظل يردد مع فيروز: بحبك يا لبنان.. يا وطني بحبك بشمالك.. بجنوبك.. بسهلك بحبك تسأل شو بني.. وشو اللي ما بني بحبك يا لبنان.. يا وطني طباعةEmailفيسبوكتويترلينكدينPin InterestWhats App
مشاركة :