"الملاحظات": مسرحية ينتقد فيها المخرج عمله

  • 10/28/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

نشأ دان جيميت، المولود في لندن عام 1967، في وسط فني، فأبواه كانا ممثلين ورث عنهما عشقهما للفن الرابع. عمل منذ تخرجه عام 1989 في غولدسميث كوليج التابع لجامعة لندن في فن العرائس، ثم أسّس مع صديقه مارك فون هينينغ فرقة مسرح تجريبي “العِلم البدائي” تناولت أعمالا لكبار المؤلفين أمثال “ميديا” لهاينر مولر، و”أنتيغونا” لبريخت، و”أوبو ملكا” لألفريد جاري، واقتبست أعمالا أخرى مثل “جوع” عن نصوص لفرانز كافكا، و”أمين مكتبة معتلّ” عن قصص لبورخس. ومنذ عام 1999 استقر جيميت بباريس، وواصل نشاطه في الاقتباس والإخراج، فعالج الكثير من الأعمال الكلاسيكية معالجة جديدة تنطلق من الأصل ثم تنزاح عنه مثل “هاملت تقريبا”، و”شِك” عن “ليلة الملوك” لشكسبير، و”أنا لامرئي” عن “حلم في ليلة صيف” للكاتب نفسه، وآخرها “ماكبث” (الملاحظات) العمل الذي يعرض حاليا على خشبة “لوسرنير” بباريس. كيف يمكن إعادة خلق عالم بالاشتغال على نص معروف عرض مئات المرات في كافة أصقاع المعمورة، وتقديم رؤية ذاتية؟ كيف يمكن أن نبث روح هذا الإبداع لممثلين كي ينفثوا فيه الحياة؟ كيف السبيل لوضع عناصر ضرورية لإنجاز أثر كلاسيكي بديع؟ كل تلك الأسئلة تضطرم في رأس المخرج المسرحي، وهو يعيش حالة استنفار قبل العرض الأول لماكبث، ماكبثه هو. هذه المسرحية كما يدل عليها عنوانها الفرعي “الملاحظات” تتناول اشتغال المخرج على الملاحظات التي أعدها لتوجيه الممثلين الذين يعملون تحت إشرافه خلال التمرين، وطريقته في إخراج مسرحية شكسبير الشهيرة. أحداثها تدور على خشبة جمع فيها المخرج أعضاء فرقته، ليراجع معهم نقاطا كثيرة لم تفلح حصة التمرين الأخيرة، التي دامت نحو ست ساعات، في السيطرة عليها. ورغم ضيق الوقت، يعيد عليهم تصوّره لمسرح يتّسم بفوضوية تستوجب من الجميع حضورا جسديا مضاعفا، ويصف المشاهد التمثيلية بكثير من السخرية، ويبالغ في تقليد بعض الممثلين، فينطلق الكلام بغير ضابط. على خشبة عارية، يقف الممثل دفيد أيالا وبيده دفتر كبير ليعيد مراحل التمرين الحرجة في شيء من السريالية، فيتنقل يمنة ويسرة وسط جمع من الممثلين والمساعدين، ليصوّب حركة أو خطابا وينبّه التقني إلى بعض الجزئيات، ويركّز على مشاهد تخلق فجوات بين النص الأصلي وما يريد تمريره، فيكشف للمتفرج عن فكر فوضوي. ذلك أن جيميت اختار هذه المرة أن يوجّه عدسته نحو الكواليس، ليرينا حصة عمل يشتغل خلالها أحد المخرجين مع فرقته لعرض مسرحية “ماكبث”. يقف أمام فريقه، ليوجه إليه، وإلى الجمهور في الوقت ذاته، ملاحظاته وأفكاره وتفاصيل عن عمله كمخرج. يبدو هادئا ثم لا يلبث أن يتنمر، فيمضي من مكان إلى آخر في خفة، لاسيما إذا قفزت إلى ذهنه فكرة جديدة يحاول أن ينقلها إلى الممثلين بفيض من الحماس. ولكن المسرحية تأخذ بعدا آخر أشبه برحلة استكشاف في عوالم مجهولة، إذ ينأى أيالا شيئا فشيئا عن ماكبث ليروي عدة طرائف عن هذه الصناعة، بلغت حد السخرية من نفسه ومن عمله الفني، كانتقاده مسرحية “هاملت” التي سبق أن أخرجها في “الكوميدي فرانسيز” عام 2013، والترجمة التي قام بها الشاعر الفرنسي الراحل إيف بونفوا. وأيالا لا يتقمّص دور المخرج وحده، بل يتقمّص عدة أدوار، واختار جيميت في كل مرة إظلام القاعة للحظة وجيزة، يتركّز إثرها الضوء على وجه البطل ليؤدي دور شخصية أخرى، وقد أفلح أيالا في المرور مرورا مقنعا بين شخصيات متوترة، مندفعة، ثائرة، غاضبة، وأخرى لينة، خجولة، ضعيفة، غير قادرة على مواجهة ما يجدّ من مواقف مثل شخصية ليدي ماكبث. فضل "ماكبث" (الملاحظات) أنها تطلع المشاهد على تجارب في الحياة وفي كواليس العمل المسرحي وتشعباته بأسلوب طريف وهو يقبل على عمله كما يقبل عاشق على أول موعد غرامي، إذ يخفي خلف إسرافه في القول والحركة حياءه وشدة خجله، ويبالغ في ذلك ليخفي عشقه المهووس للمسرح، لأن العلاقة بينهما، شأن العواطف الجياشة، لها وجهان، وجه خاضع ووجه لا يقنع بما ينال. لذلك كان لا ينفك يراكم الوصف والحكي والتحليل، ويستعرض المعجم الدرامي وما يحويه من مصطلحات يعرفها رجال المسرح، ويلمّح لكراهيتهم للنقاد والصحافيين، وعلاقتهم بالممثلات، والصعوبات التقنية التي تعترضهم، والقرب من السينما الذي يبلغ حدّ التعايش أحيانا. هذا الجانب المغالي في رسم الشخصية يناسب غلوّ المسرحية نفسها، حيث الشخصيات مسكونة بنوازع حادة كالخيانة وحب النفوذ والوله والجشع، فلا شيء ممّا تحويه يحيل على السكينة والهدوء. وفضل “ماكبث” (الملاحظات) أنها تطلعنا على تجارب في الحياة وفي كواليس العمل المسرحي وتشعباته بأسلوب طريف يكشف عن عناية المخرج بفضاء عمله في أدق جزئياته قدر عنايته بتسيير ممثليه وإدارة فرقته، مثلما يكشف عن هوس دان جيميت بالمسرح، وقدرة الممثل دفيد أيالا على تجسيد ذلك الهوس.

مشاركة :