جلس العشرات من اللبنانيين بين الكتب المتنوعة على مدى ساعة ليستعيدوا ذكرياتهم مع الأغنيات القديمة المميزة والنادرة للمطرب الراحل فريد الأطرش، في أمسية قدمها وقام بتحليل مضمونها الكاتب والناقد الموسيقي اللبناني إلياس سحاب، في المكتبة العامة لبلدية بيروت قبل أيام. ومنذ عام 2005، عمد سحاب إلى إقامة هذه الأمسيات مرة في مطلع كل شهر متوغلا سماعا وتحليلا في أعمال عمالقة الفن العربي، مركزا على لبنان ومصر. ويعتبر عشرات الذواقة هذه الأمسيات الموسيقية الشهرية من الطقوس المحورية في حياتهم، لا سيما أنها تذكر من عاصروا الفن التقليدي بصباهم وتعيد إحياء قصصهم الماضية، وتنعش ذكرياتهم من خلال مقطع موسيقي في أغنية وجملة مغناة في أخرى. والاثنين الماضي، اجتمع عدد كبير من محبي فريد الأطرش في الصالة المديدة الملاصقة للمكتبة القائمة في منطقة الباشورة ببيروت التي تحوي مئات الكتب، وحضروا قبل الوقت المحدد للأمسية بدقائق طويلة استغلوها للدردشة ولطرح بعض الأسئلة على إلياس سحاب والبعض الآخر أمضى لحظات الانتظار في التعرف على الكتب والمجلات المنتشرة على الأرفف بمختلف اللغات. وهتف سحاب قائلا ما أن دخل المكتبة: «كنت على يقين من أن كثيرين سيحضرون مساء اليوم، لأن المحور هو الكبير فريد الأطرش». وانتقل الحضور إلى زمن اعتبره رجل مسن «رحل مستأذناش». وامتزجت الحكايات التي اختارها إلياس سحاب لتسلط الضوء «على حقبة أو أخرى من حياة الأطرش الفنية والخاصة، في أن بالأغنيات التي أرادها سحاب الانعكاس الحقيقي لما كان يدور في الكواليس» كما قال لوكالة «رويترز». وشرح قائلا إنه من المهم بالنسبة إليه أن تعكس أغنية أو أخرى يختار الاستماع إليها مع الحضور بعض لحظات من حياة فريد الأطرش، لتكون الأعمال المعالجة خلال الأمسية مدعومة بنوادر مسلية «فلا تتخلل الأمسية أي لحظات من الملل أو الرتابة». ويعتبر سحاب هذه الأمسيات «جسر العبور إلى المعرفة والتاريخ الفني العريق»، مؤكدا أنه «ثمة فرق شاسع بين كيفية تعاملنا في العالم العربي مع التراث العربي، وكيفية تعامل الغرب مع تراثه. كل مناهج التدريس في الدول الأوروبية ترتكز على رصيد الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية بدليل أنه ومنذ قرنين وفي كل المرات التي تطورت فيها وسائل التسجيل والأوركسترا نلمس وبتزامن معها إعادة لتسجيل النماذج القديمة من الرصيد الكلاسيكي». يضيف: «ارتأيت أنه يجب علي ومن موقعي الشخصي على الأقل أن أقوم بدور، وإن كان صغيرا، يتمحور حول إعادة الصلة بين الأذن العربية المعاصرة والتراث الموسيقي الكلاسيكي، وتحديدا الذي اشتهر في القرنين الأخيرين في مصر ولبنان». ويطوف سحاب البلدان العربية بحثا عن تسجيلات قديمة ونادرة وإن كانت غير واضحة كليا، ومن هذه الأغنيات: «تطلع يا قمر بالليل»، التي وصفها بأنها «طقطوقة». وقال سحاب إن هذه الأغنية نقلت إلى مصر: «المزاج المشرقي العربي، ونلاحظ أنه في أحد المقاطع يظهر فريد الأطرش، وكأنه يتحدث عن بيئة جبل العرب في سوريا، من حيث قدم حتى الكلام فيه تعبير عن البيئة المشرقية. ميزة هذا اللون عشق مصر له. وقد تكون مصر أكثر بلد عربي يضم شعبية كبيرة لفريد الأطرش». وكانت الانطلاقة مع تسجيل قديم ونادر لأغنية «عيني بتضحك»، التي قال عنها سحاب إن فريد الأطرش كان لحنها بداية لرجاء عبده، وأعاد الأطرش تسجيلها لاحقا، بنسختها الإذاعية المطولة لشدة ما أحب اللحن. وروى بعدها سحاب بعض مقتطفات من سيرة فريد الأطرش مسلطا الضوء على عام 1923 الذي كان «من الأعوام الغريبة في تاريخ الموسيقى المعاصرة. ففي تلك السنة توفي سيد درويش ونزلت أم كلثوم من الريف لتستقر في القاهرة. وهي السنة التي تبنى فيها أحمد شوقي الفنان الناشئ محمد عبد الوهاب. وفي تلك السنة أيضا لجأت علياء المنذر إلى القاهرة مع أولادها الثلاثة فؤاد وفريد وأسمهان». وولد فريد الأطرش في السويداء في جبل العرب بسوريا، ونشأ فيها، وانتقل لاحقا إلى لبنان. وقال سحاب لـ«رويترز»: «كان صوت والدته من الأصوات الجميلة. وميزتها أنها كانت قد حفظت كل التراث المشرقي العربي في الغناء. ومن حسن الحظ أنها كانت حريصة على أن يرث فريد وأسمهان تلك الميزة». وأكد سحاب أن فريد وأسمهان كانا لاحقا أشبه بالمندوبين للمشرق العربي لدى القاهرة، حيث المزاج المشرقي لم يكن رائجا بعد. وقال محمد كامل خشان (80 عاما) المعروف في المكتبة بلقب «أبو عماد» إن هذه الأمسيات الشهرية «لها مكانتها الكبيرة في حياتي. أتابعها منذ أكثر من خمس سنوات. كل أغنية أو مقطع من موشح يعيدني إلى طفولتي.. إلى مراهقتي، فأتذكر أيام الجامعة». أما فيوليت مراد (65 عاما)، فلم تشبع من هذه الأمسية: «هذه الأعمال تعيدني إلى الزمن الجميل الذي يزورني أحيانا مجسدا بأنغام وكلمات أجملها تلك التي تنتمي إلى عالم فريد الأطرش. أولادي يمازحونني دائما ويرددون على مسمع من زوجي أن فريد كان وسيبقى حبي الأول».
مشاركة :