لا تزال الأخبار التي تتناول الكاتبة البريطانية جين أوستن، تشغل المهتمين بالأدب، فقد تم مؤخرا عرض رسالة نادرة، بالمزاد العلني نهاية الشهر الجاري بمقر "بونهامز" للمزادات بولاية نيويورك، وتعود الرسالة لعام 1813، وتحديدا في 16 سبتمبر/أيلول، وقد كتبت بخط يدها في أربع صفحات، أي بعد صدور روايتها "كبرياء وهوى" بوقت قصير، وكانت أوستن قد كتبت الرسالة إلى أختها كاسندرا، تحكي لها عما مرت به في يومها بدءا من رحلتها إلى طبيب الأسنان مع ابنة اختها حتى مرض والدتها، ووصفت كاثرين ساذرلاند، خبيرة مقتنيات متحف جين أوستن والقائمة عليه، الخطاب "بالجوهرة". وفي كل عام تحتفل بريطانيا في بلدة باث تحديدا بذكرى ميلاد جين أوستن، عبر مهرجان يرتدي فيه حوالي خمسمائة شخص، أزياء تشبه ما يرتديه أبطال وشخصيات من روايات أوستن. ويخرجون إلى الشوارع في ممشى خاص معلنين بداية مهرجان أوستن السنوي. قراء أوستن من الجيل الشاب يعترفون أن ما يجعلهم مغرمين بهذه الكاتبة هو قدرة رواياتها على سحبهم لساعات من عالمهم الواقعي إلى عالم آخر متخيل وبعيد زمنيا. ربما هذا ما يدفعنا للسؤال عن سر هذا الاندفاع غير المسبوق نحو إعادة قراءة روايات جين أوستن والاهتمام بسيرتها، تلك الروائية البريطانية التي مضى على ميلادها أكثر من 200 عاما؟ لماذا يتدافع منتجو السينما والتليفزيون في العالم لتقديم أفلام ومسلسلات مأخوذة من قصصها؟ تأتي الإجابة ببساطة لتؤكد أن أوستن كاتبة كلاسيكيةٍ استطاعت بعبقريتها الروائية سبر أغوار الطبيعة البشرية، والغوص بيسرٍ وسهولةٍ في حقيقة مجتمعها. لقد ظلت روايات أوستن لفتراتٍ طويلة –مثلها في ذلك مثل كثيرٍ من الأدباء الكلاسيكيين- حبيسة أرفف المكتبات والفصول الدراسية إلى أن آن الأوان لنفض الغبار عنها. إن أوستن نجحت في تقديم صورة لمجتمعها يجد الناس أنفسهم فيها حتى الآن.. صورة تجمع بين الرومانسية الحالمة والواقعية المسكونة بالسخرية. التفتت سينما هوليود إلى روايات أوستن، فكان الفيلم الشهير "الكبرياء والهوى" المأخوذ من روايتها الذي أنتجته شركة مترو غولدين ماير عام 1940، وقام ببطولته سير لورانس أوليفييه والممثلة جرير جارسون. لكن بعد ذلك لم تنتج السينما شيئًا قويًّا مأخوذًا من رواياتها، إلى أن جاءت التسعينات من القرن العشرين، وأنتجت هيئة الإذاعة البريطانية "بي. بي. سي" مسلسلين تليفزيونيين ناجحين مأخوذين من روايتيها "كبرياء وهوى" و"إيما".. ثم كانت ذروة النجاح للفيلم الذي أُخذ من روايتها "العقل والإحساس" الذي فاز بجائزة أحسن سيناريو لكاتبة السيناريو الممثلة البريطانية إيما تومسون، كما تم انتاج فيلم مأخوذ من روايتها "إيما" بطولة غوينيث بالترو وجيرمي نورثام، وقد حقق الفيلم في أول يوم عرض دخلًا زاد على 2,5 مليون دولار. ولم يقتصر اللهاث خلف أعمال "أوستن" على السينما والتليفزيون فحسب، بل امتد السباق إلى دور النشر أيضًا حيث يُقبل الناشرون بشهيةٍ كبيرةٍ على إعادة طبع أعمالها، وكذلك التكملات التي كتبها أدباء آخرون لرواياتها. وعلى سبيل المثال نشرت دار بنجوين عشر طبعات مختلفة من رواية الكبرياء والهوى، وحققت طبعة واحدة من هذه الطبعات مبيعات قدرها 12 ألف نسخة في شهرٍ واحدٍ هو شهر يوليو/تموز. عاشت أوستن بلا زواجٍ ودارت موضوعات رواياتها حول الحب والزواج والمال. ولم تكن شخصياتها ترتبط في سلوكياتها أخلاقياتها بالقيم الروحية بقدر ارتباطها بالمجتمع آنذاك. إن أوستن كانت مهتمة جدًّا بتحقيق استقرار المجتمع. وربما كان الدافع وراء اهتمامها الشديد بالمجتمع وعلاقاته هو أنها عاشت في زمن الثورة الفرنسية التي أعلت من قدر المواطن الفرد كأساسٍ لقوة المجتمع. وإذا كان القول الشائع يشير إلى أن الروائي في رواياته يبحث دائمًا عن "معنى الحياة" فإن أوستن كانت تبحث عن "معنى المجتمع" وكيفية تحقيق الاستنارة والوعي في مجتمعها. ومع ذلك فإن الموضوع الأهم عند أوستن كان الحب، وهو السر الذي شد الملايين في كل أنحاء العالم لقراءة كتبها. فما من روايةٍ من روايات أوستن إلا وتدور حول بحث المرأة الشابة عن الحب ومن ثم السعادة من خلال الزواج، وإن كانت معظم بطلاتها لم يجدن هذه السعادة المنشودة في الزواج. وهكذا لا تقدم أوستن إلا نماذج قليلة جدًّا نجحت في تحقيق السعادة الزوجية. وهنا تكمن المفارقة التي جعلت من جين أوستن روائية محبوبة.. أنها تجعل الزواج هو النهاية المحتومة لرواياتها لكنها في ذات الوقت توضح أن الزواج لا يحقق السعادة دائمًا، إنه المزج بين رومانسية العاطفة والأحلام وواقعية الزواج. شخصيات "أوستن" سعت بجدٍّ واجتهادٍ للزواج بحثًا عن الحب الحقيقي، لكن هذا الزواج كان مصدرًا للمتاعب والألم. المثال الحي على ذلك هو إيما التي تزوجت – وهي فتاة جميلة عنيدة لم تتجاوز عقدها الثاني – بمستر تايتلي الذي كان في الأربعين من العمر، لكن الزواج لا يأتي لها بالحب المتوهم. الموضوع الثاني الذي تدور حوله روايات أوستن هو المال. إن كثيرًا من القراء يقبلون على رواياتها متصورين أنها ستغوص بهم في حياة النزق والثرثرة وشاي بعد الظهيرة للنساء البريطانيات، فإذا بها تفاجئهم في مقدمة رواياتها بشرحٍ تفصيلي للثروة والمال وثمن العقارات والأراضي والدخل، ويبدو هذا جليًّا في مقدمة رواية "الكبرياء والهوى"، وكذلك في رواية إيما. وتشدد روايات أوستن على أن الزواج سعيًا لمال الزوج أو الزوجة هو أمر عقلاني وسلوك لا غبار عليه. والطريف في الأمر أن أوستن لم تكن أبدًا من الأثرياء أو امتلكت مالًا وفيرًا، ولعل هذا هو سبب اهتمامها بالمال!. وهكذا نجد أن المحور الرئيسي الذي تدور حوله بعض رواياتها هو الوضع المالي للحبيب أو الحبيبة. ظهر هذا في رواية "مانسفيلد بارك" حيث عانت البطلة "فاني برايس" من الفقر وكانت عمتها تعولها، وفي رواية "اقتناع" حيث كان فقر البطل الكابتن وينتوورث سببًا كافيًا لعدم صلاحيته للزواج، وفي رواية الكبرياء والهوى يتردد السيد دارسي الثري والمغرور من الزواج باليزابيث بسبب وضع أسرتها الضعيف ماديا. كانت أوستن امرأة طموحة، ومتمردة على تقاليد زمنها. احتضنت كتابتها تفاصيل الحالة الإجتماعية، للطبقة الإنكليزية الأرستقراطية؛ حيث يمكن اعتبار رواياتها توثيقا لتلك المرحلة ودليلا ابداعيا على واقع العلاقات بين الجنسين؛ مجرد قراءة الحوارات التي تحفل بها رواياتها يقدم تصويرا دقيقا لشكل علاقات الحب والزواج القائمة على التوازنات المادية أكثر من أي شيء آخر . واجهت أوستن في زمنها انتقادات ومخاوف من الأفكار التي تضمنتها رواياتها، على اعتبار أنها تساعد النساء على معرفة أنفسهن أكثر، وبالتالي على تغيير اختياراتهن وقراراتهن في الحياة، مما سينعكس مباشرة على الثوابت الإجتماعية الصارمة للارستقراطية الإنكليزية العريقة؛ التي تجرأت أوستن على تحديها عبر أفكار نسوية واضحة، وأسلوب يجمع بين السخرية والمفارقة. لقد قدمت أوستن في رواياتها ما يحتاجه مجتمعنا الآن.. الرومانسية القوية التي افتقدناها في عصرنا الحالي، والواقعية الساخرة التي تُعبر عن أحوال الناس وعجز الزواج في كثيرٍ من الأحيان عن تحقيق السعادة المنشودة للمرأة وللرجل أيضًا.
مشاركة :