من منزلٍ مُطلٍ في هامبشاير، راقبت الروائية جاين أوستن علاقات الطبقة الوسطى في المجتمع الانكليزي قبل 200 عام، لتقدم عبر بطلات رواياتها عالماً رائعاً لا ينتمي إلى عصرها فحسب، بل يتخطاه الى حقبات مقبلة. فما الذي يفسر استمرار شعبية أوستن ورواياتها الست؟ وكيف لإمرأة قضت حياتها في محيط ضيق وهادئ في انكلترا القرن التاسع عشر، أن تصبح بعد وفاتها من أبرز مشاهير الأدب الانكليزي، وأن تفوق شهرةً كل كتاب عصرها بلا استثناء؟ قد يكون لتولستوي، ديكنز وبروست قراء كثر، ولكن، لأوستن عدد لا يحصى من المعجبين في أنحاء العالم ممن يعيدون قراءة كتبها كل سنة، وينتظرون بفارغ الصبر أحدث اقتباسات السينما والتلفزيون لرواياتها. هناك سر يحيط باستمرارية جاين أوستن وديمومة نجاحاتها. قد يعود الأمر إلى الشخصيات الحقيقية التي ابتكرتها، حواراتها الذكية، المفارقات الساخرة، والتعليقات التهكمية، لكنّ الميزة الأهم هي أن رواياتها تضج بالرومنطيقية. تُشرك أوستن المرأة والرجل في رقصة تجاذب أبدية. قد تختار المرأة رجلها أو العكس، وفي أحيان كثيرة يكون «للرجل ميزة الاختيار، وللمرأة فقط قوة الرفض»، على قولها. معاً يواجهان عقبات شخصية واجتماعية، فإذا كان من المقدر لهما أن يكونا معاً، فسيصلان إلى النهاية السعيدة، التي غالباً ما تطبع رواياتها. هذه الثيمة البسيطة، بما تحمل من أفكار ومشاعر، هي ثيمة عابرة للزمن، وكذلك بعض الجمل الراسخة في أذهان القراء، مثل مقدمة روايتها «كبرياء وتحامل» التي تقول: «إنها حقيقة معروفة كونياً أن رجلاً أعزب يملك ثروة طائلة، لا بد من أن يكون في حاجة إلى زوجة». إثر قراءة «كبرياء وتحامل»، لم تعد الفتيات يحلمن بفارس أحلام يأتيهن على حصان أبيض، ويسمعهن أعذب قصائد الحب والغزل، أصبحن ببساطة يحلمن بـ«السيد دارسي»، العاشق المغرور المعتد بنفسه الذي تمنعه كبرياؤه من الاعتراف بحبه بسهولة. وفيما تمرست في الكتابة عن الحب والزواج، لم تكن محظوظة قط في الحب. «كلما زادت معرفتي بالعالم، تقول أوستن، تيقنت بأنني لن أجد رجلاً أحبه بحق». لتعود وتؤكد على لسان بطلاتها «ان السعادة في الزواج هي مسألة حظ لا أكثر». لذلك ربما رفضت الزواج. وكانت أوستن تلقت عرضاً للزواج من شقيق أحد أصدقاء العائلة، حتى أنها أعطت موافقتها السريعة، لتعود وتعدل عن قرارها في صباح اليوم التالي. توضيحاً لفعلتها كتبت في رسالة لصديقتها تقول: «كل شيء يمكن تقبله واحتماله... إلا الزواج بلا حب». في رواياتها، يبدو قرار الزواج حتمياً، ولكن ما أن يتم حتى يصعب إبطاله. في «كبرياء وتحامل» يتزوج السيد بينيت، كما تروي أوستن، من السيدة بينيت لأنها «أَسَرَته بشبابها وجمالها»، ولكن ما أن يزولا حتى يكتشف طبيعتها الحقيقية، واستعدادها للتخلي عن كرامتها واعتدادها بنفسها ومبادئها بغية ايجاد أزواج لبناتها، فينصرف لقراءة الكتب التي تمنحه بعض العزاء. في هذه الرواية، تختبر أوستن العلاقات الزوجية على اختلافها، في مسعى لتقييمها. هناك زواج ليديا وويكهام إثر فرارهما معاً، وهو زواج مبني على الشبق والمصالح، ومن ثم زواج جاين وبينغلي القائم على الحب والعاطفة فقط، وزواج شارلوت وكولينز العقلاني تماماً والمجرد من كل العواطف، لتكلل الرواية أخيراً بزواج دارسي واليزابيث القائم على الحب والندية والاحترام المتبادل. في رواية «إيما»، يعود الزواج ليتصدر الأحداث. بطلة الرواية لا يشغل بالها سوى الجمع بين القلوب المتحابة، وبين كل شاب وفتاة ترى أنهما يليقان بعضهما ببعض حتى من دون موافقتهما أو وجود مشاعر تربط بينهما. لكنها تكتشف لاحقاً أنها مغرمة بصديقها العزيز نايتلي الذي يكبرها عشرة أعوام، وذلك بعد محاولة احدى صديقاتها التقرب منه، فتتخلى عن «مهمتها الإنسانية» وتقرر الفوز به لنفسها. إيما هي البطلة الوحيدة في روايات جين أوستن التي تملك استقلالية مالية، وبالتالي فإنها لا تنظر إلى الزواج على أنه وسيلة لتحسين مكانتها الاجتماعية والمادية. لا بل أنها تخشى من أن يحول الزواج دون حفاظها على استقلاليتها. ولعل أكثر ما يميز إيما عن سائر بطلات أوستن، مشاعرها الباردة وبعدها التام عن الرومنطيقية، على عكس ماريون داشوود في رواية «احساس وعقلانية»، وآن إليوت في رواية «الاقناع»، وجاين في رواية «كبرياء وتحامل»، وعلى خلاف البطلات اللواتي تحركهن عواطفهن، تبدو إيما متفلتة من قيود الحب، وتنظر إليه من زاوية بعيدة. فقط في الفصل الأخير من الرواية، عندما تكتشف مشاعرها نحو «نايتلي» تتحول إلى بطلة رومانسية نمطية من بطلات أوستن. عندما نشرت جاين أوستن روايتها الأولى «الإحساس والعقلانية» عام 1811 لم يكن أحد ليتوقع أن هذه الكاتبة ستصبح من أبرز سيدات الأدب الانكليزي، وقد تطلب الأمر مئة عام قبل أن تعود رواياتها إلى الواجهة ويجري تداولها في الأوساط الأكاديمية والثقافية لتصيب شهرة عالمية لا تزال مستمرة حتى اليوم. وإذ يؤخذ عليها أنها اكتفت بتقديم صورة عن نساء انكلترا في ظروف عاطفية واجتماعية صرفة، بعيداً من الأحداث التاريخية والحقائق السياسية الكثيرة التي سجلت في تلك الحقبة، يعتبر بعض النقاد أن ذلك أسهم أيضاً في ديمومة نجاح رواياتها.
مشاركة :