بعد رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش نشطت الكتابات النقدية المثمرة حول تفاعله وتأثره بشعراء آخرين وتحديدا بالتراث الثقافي العالمي ولقد أدت المقارنات إلى تأكيد قضيتين مهمتين في الشعر الحديث برمته وهما أن “كل من له تاريخ يتأثر”، وأن ثمة دائما مرجعيات تراثية يشترك فيها الشعراء المهمّون في المشهد الشعري الإنساني، ويعني ذلك أن مثل هذا الاشتراك ليس تطابقا حرفيا بين التجارب الشعرية وإنما يعني استلهام التراث الإنساني بطرق مختلفة ومن أجل أهداف متنوعة. شعراء متأثرون في هذا الخصوص كرّس الناقد والدارس محمد شاهين كتابا كاملا رصد فيه استخدام عدد من الشعراء العرب المعاصرين لموضوعات وتقنيات كانت قد وظفت من طرف شعراء الحداثة الغربيين وفي مقدمتهم الشاعر توماس إليوت الذي يزدحم شعره بالإشارات الأسطورية والدينية منها تلك التي تعود إلى الجذر الثقافي التاريخي الشرقي. من هؤلاء الشعراء الذين رصدهم محمد شاهين بدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش. وهنا نتساءل هل يمكن القول، مثلا، بأن ثيمة الزمان في جدارية محمود درويش هي نفسها في عملين شعريين بارزين في خارطة الشعر الغربي وهما قصيدة أغنية حبّ لألفريد بروفرك، ومجموعة الرباعيات الأربع للشاعر إليوت وخاصة نورتن المحترقة، وكوكر الشرقية اللتين يظهر فيهما انغماس إليوت في التاريخ. أتوقف الآن بسرعة عند نموذج واحد من المقارنة التي يعقدها محمد شاهين بخصوص موضوعة الزمان عند كل من إليوت ودرويش حيث نجده يخلص إلى استنتاج مفاده أن درويش لا يتعدى تأثره بالشاعر إليوت توظيف الفكرة نفسها وإن “بشكل مغاير”، وأنّ استخدام إليوت للزمان في قصيدة بروفرك هو من باب الاقتباس الحرفي من الكتاب المقدس. وفي هذا السياق يتأكد من يقرأ مغزى صفحات (سفر الجامعة – الإصحاح الثالث) أن استنتاج محمد شاهين يبدو صحيحا ظاهريا، ولكن يتضح أيضا أنّ قصائد بروفرك والرباعيات الأربع لا تتكئ فقط على فكرة الزمان كما هي في “سفر الجامعة”، بل إنه يلجأ إلى اقتباسات أخرى من نصّ العهد القديم ومن نصّ العهد الجديد وإلى إشارات أسطورية أخرى ذات جذور ثقافية مختلفة. ويبدو أيضا أن محمود درويش لا يحاكي إليوت في استخدامه لفكرة الزمان بشكل حرفي، لأن تأمل مضمون التجربة التي تعكسها قصائد كل منهما يبرز أن هناك خلافا جوهريا بين الشاعرين في التعاطي مع موضوعة الزمان ويتمثل هذا الاختلاف في أن إليوت يسجل ملاحظاته في قصيدة بروفرك “لنقل المشاعر بدلا من الإدراكات ذات الصلة بالمشهد الاجتماعي” وذلك حسب ملاحظة الدارس جورج وليامسون في قراءته لتجربة المضمون والتقنية عند إليوت. وأكثر من ذلك فإن استخدام إليوت للتراث الأسطوري والديني يدخل في إطار شهادته الشعرية على تحلل الحضارة الغربية، في حين ينحصر رجوع درويش ضمن كثير من قصائده، وبالتحديد في الجدارية، على استدعاء التراث الديني المتمثل في سفر الجامعة لتسجيل موقفه من المشهد الكولونيالي ومن التاريخ الوطني الفلسطيني المفقود في ظل الاحتلال الإسرائيلي فضلا عن تسجيل ملاحظاته شعريا حول دور الزمان في إضعاف الجسد الإنساني الفاني. فكرة الزمان لتوضيح نقاط الاختلاف والالتقاء في توظيف إليوت ودرويش لفكرة الزمان نورد هنا هذا المقطع من سفر الجامعة لأنه يتردد في قصيدة الجدارية لمحمود درويش وفي قصيدة بروفرك والرباعيات الأربع لإليوت كما نرى لاحقا: هناك وقت لكل شيء/ وسبب لكل نشاط تحت السماء/ وقت لكي يولد ووقت لكي يموت/ وقت للغرس ووقت للقلع/ ووقت للقتل ووقت للعلاج/ ووقت للتحطيم ووقت للبناء/ ووقت للرثاء ووقت للرقص. ولكن سفر الجامعة يؤكد في الوقت ذاته أن كل شيء باطل مثل قبض الريح. هنا نجد إليوت يتكئ على ثنائية الفعل البشري بواسطة استخدام المونولوج في قصيدة بروفرك غير أن زوال الشباب الذي يسقطه ليصبح زوالا للحضارة بارز ويتحكم في صيرورة القصائد: هناك وقت للاغتيال وللإبداع/ ووقت لكل الأعمال وأيام الأيدي التي ترفع وتسقط السؤال على صحنك/ وسيكون هناك وقت حقا. أما درويش فيكتب في الجدارية: لا شيء يبقى على حاله/ للولادة وقت/ وللموت وقت/ وللصمت وقت وللنطق وقت وللحرب وقت/ وللصلح وقت وللوقت وقت/ ولا شيء يبقى على حاله. وهذا يوضح لنا أن درويش يربط فكرة الزمان بالتحول، ويعني هذا أنه لا ينقلها من مرجعيتها الدينية لمعاينة سقوط الحضارة أو عجز الإنسان كما عند إليوت. وهنا يمكن لنا تحديد الفرق الجوهري بين الشاعر إليوت والشاعر درويش، حيث يتمثل في أن الأول هو شاعر القلق الحضاري والفلسفي، أما درويش فهو شاعر التحول في التاريخ، وبالنتيجة فإن تأثر درويش هو أولا تأثر بمرجعية سفر الجامعة، أما تأثره بإليوت فهو تقني فقط.
مشاركة :