أول المقالات التي ضمها الكتاب الصادر عن دار صفصافة “القيمة الاجتماعية ونظام السعر-الدخل” يتساءل أمين: هل أدى التقدم في إنتاجية العمل الاجتماعي، الناشئ في إطار توسع الرأسمالية، إلى “تقدم اجتماعي” بالمعنى الأوسع للكلمة “ولو لم يتم تحديده بدقة حتى الآن”؟ ويقول إن توسّع الرأسمالية محكوم بالقانون الرأسمالي للقيمة المُحولة، والذي لا يحكم فقط إعادة الإنتاج المُوسع، بل يحكم أيضا، باختصار، جميع جوانب الحياة الاجتماعية، التي تخضع لمتطلبات عمل وربح رأس المال ذات الأولوية، فليس هناك “اقتصاد سوق”ـ باستخدام المصطلحات الشائعة المبتذلة- لا يؤدي إلى “مجتمع سوق”، فيما عقلانية القرار الاقتصادي، التي يقدمها الاقتصاديون البرجوازيون لا تعدو كونها عقلانية نسبية، تغدو لاعقلانية إذا ما ارتفعت من مستوى الإدارة الاقتصادية، إلى النطاق الكامل للحياة الاجتماعية. ولا يترادف تقدم القوى الإنتاجية، المرتبط بهذا المنطق، مع التقدم بمعناه الكامل؛ لأنه، كما كان دائما، يحمل تأثيرات بناءة ومدمرة في الوقت نفسه، ويستمر هذا التناقض بالتفاقم ـ الجوهري ضمن الديالكتيك المادي للتوسع الرأسمالي- ضمن الحدود التي تسمح بتقدم التاريخ في إطار هذا النظام، والذي وصل حاليا إلى درجة، يمكن القول معها من الآن فصاعدا، إن الجوانب المدمرة للرأسمالية أصبحت تغلب على مساهماتها التقدمية، وتبرز الحركة البيئية المعاصرة بشكل خاص كدليل هذا الانقلاب. ويضيف “من جانبي أكدت على بعد مختلف للتناقض”، هو التفارق المتزايد بين الظروف المادية المتاحة للأغلبية في المراكز، وتلك المتاحة لنظيرتها في تخوم النظام الرأسمالي العالمي، والذي يمثل الشكل الرئيس للإفقار، الذي ربطه ماركس بشكل صحيح بتكشّف تناقض رأس المال/العمل؛ فقد مكّنته الأداة المنهجية الأساسية، الديالكتيك المادي، من الاستيعاب الكامل لازدواجية التقدم المُحقق بالرأسمالية وضمنها، فيقول ماركس عن نمط الإنتاج الرأسمالي، إنه مع تزايد قوته، وبالتوازي مع توسّعه، يدمر الأسس الأكثر ضرورية للمجتمع، وهي “الإنسان” (العامل المُغتَرب والمُستغَل)، و”الطبيعة”؛ ومن ثم خلص ماركس إلى أن النظام الرأسمالي لا يمثل سوى مرحلة واحدة من التاريخ. التبسيط السوفييتي الذي انتهك الماركسية، كان قد أعلن {حتمية} الاشتراكية، واضعا بفعله هذا، محل المعالجة المادية الديالكتيكية للمادية التاريخية لماركس ففكرة أنها قد تكون “نهاية التاريخ”، كما هي متداولة هذه الأيام، أو بشكل أكثر حصافة، أنها نظام قادر على التكيّف اللامحدود مع متطلبات التغيير، هي بالكاد كلام فارغ، فالرأسمالية تكيّفت، واستطاعت التكيّف، مع كثير من المتطلبات، لكن ليس أبدا مع تلك الضرورية للتغلّب على تناقضها الرئيس. ولم يستنتج ماركس من هذه النتيجة، أن الاشتراكية – كمرحلة تحرر إنساني أعلى في سلم ارتقاء الحضارة الإنسانية- “حتمية”، فمنهج الديالكتيك المادي يحرّم مثل ذلك الاستنتاج؛ فكانت لماركس بالتالي رؤية مفتوحة للمستقبل حتى ولو كانت متفائلة، رغم أنه لم يستبعد “التدمير الذاتي”، كما أشار صراحة. ويوضح أمين أن التبسيط السوفييتي الذي انتهك الماركسية، كان قد أعلن “حتمية” الاشتراكية، واضعا بفعله هذا، محل المعالجة المادية الديالكتيكية للمادية التاريخية لماركس، تفسيرا ميكانيكيّا تشكّل فيه “القوانين” المُفترضة نظرية مكتملة ومغلقة للتاريخ. وهكذا فآفاق المستقبل مازالت مفتوحة، لكن يجب الاستعداد لها، بالمساهمة في التطور بالدفع باتجاه تجاوز الرأسمالية، ببناء بديل اشتراكي، وبتقليل مخاطر التدمير الذاتي لسفينة الرأسمالية الغارقة. أما عن كيف نستعد لمستقبل أفضل، يقوم على العقل والتحرر الإنساني “غير المنفصلين”؟ فقد وضع ماركس النضال الطبقي بقيادة الطبقة العاملة “البروليتاريا” في قلب إجابته على هذا السؤال، قائلا بوضوح إن الاشتراكية القادمة ستكون نتيجة لهذا النضال، لكنه رفض تحديد محتواها “مُقدما” بشكل تفصيلي. ويضيف أمين أن الاشتراكية، كمرحلة من سلسلة مراحل على الطريق الطويل إلى الشيوعية، والتي تعتبر أعلى مراحل الحضارة الإنسانية، سيتوجّب عليها أن تطوّر استراتيجيات تقلل تدريجيّا–لتلغي في النهاية- سيطرة القانون الرأسمالي للقيمة المُحوّلة، لكن ماذا عن القيمة الاجتماعية وإنتاجية العمل الاجتماعي؟.. إن مفهوم القيمة الاجتماعية يضيء لنا الطريق، كما يوجهنا لتصور متطلبات بناء الاشتراكية القادمة، من إدارة اقتصادية قائمة على المنفعة الاجتماعية لتلك السلع والخدمات التي يقرر المجتمع في مجموعه “لا الرأسماليين” إنتاجها، إنه لا يقدم لنا وصفة مُسبقة التجهيز، بل مجرد مبدأ، وهو: الانصهار بين الإدارتين الاقتصادية والسياسية، وخضوعهما المشترك لعمل الديمقراطية المساوية للجميع، من مواطنين ومنتجين ومستهلكين، من طلبة المدارس إلى المتقاعدين. وهكذا لدينا وعي واضح بالضرورة، وهي “هموم الحضارة” (باستخدام عبارة فرويد، لكن بمعنى مختلف)، التي تستشعرها فعلا كافة شعوب العالم المعاصر، وتتموضع مقترحات استراتيجية العمل المطروحة لتحقيق هذه الغايةـ والتي طرحتها في كتاب تدهور الرأسماليةـ ضمن نطاق هذه الرؤية، من محاولة المساهمة في إعادة خلق يسار راديكالي، أي راديكالي في نقده للرأسمالية، والذي بدأت صياغته على يدي ماركس، دون اكتمال بأي حال من الأحوال. وفي المقال الثاني، المُعنون بـ”الفائض في الرأسمالية الاحتكارية والريع الإمبريالي”، تطرق أمين إلى مسألة القطاع الثالث، المعروف بالخدمات، الذي تورّم اصطناعيّا في ظل الرأسمالية الاحتكارية كحل لإشكالية عدم التوافق بين نمو الأجور ونمو الإنتاجية بسبب الطابع الاستغلالي للنظام؛ ما يخلق تناقضات بين العرض والطلب “فينتج الأزمات الدورية”، وبين قطاعي الإنتاج والاستهلاك (فيعوق التراكم ويشوّهه).. إلخ، مما تغلّبت عليه الرأسمالية الاحتكارية “مسدودة الشرايين بضعف المنافسة” بخلق قطاع خدمات ضخم ليمتص فائض القيمة ويعيد تدويره في الاقتصاد؛ كحل ـ مؤقت بطبيعته- يتسق مع منطق النظام ولا يتعارض مع مصالح طبقته المهيمنة، لمشكلات الركود والتراكم والبطالة.. إلخ من مظاهر الأزمة المُزمنة. ويقول أمين إن بعض العناصر المكونة للقسم الثالث- مثل “تكاليف البيع” التي نمت بشكل خرافي خلال القرن الماضي- تمثل دليلا على طبيعته الطفيلية، وقد التقطها مبكرا بطبيعتها تلك بعض الاقتصاديين، مثل جوان روبنسون، الذين تم التقليل من شأنهم والاستخفاف بهم مهنيّا، وتنتمي لهذه العناصر كذلك بعض النفقات العامة “كالتسليح” والخاصة “كخدمات الحراسة والأقسام القانونية”. إن جزءا من القسم الثالث ينتمي “أو ربما كان؟” بالتأكيد للإنفاق الذي يفيد العمال، ويكمّل أجورهم “كالرعاية الصحية وتأمين البطالة والمعاشات التقاعدية”، وهذه المزايا التي كسبتها الطبقات العاملة بالنضال الضاري، قد غدت على أي حال موضعا للتشكيك عبر الثلاثة عقود الماضية؛ فخُفض بعضها بشدة، وحُوّل بعضها من مجال اختصاص سلطة عامة تقوم على التضامن الاجتماعي، إلى إدارة خاصة تقوم افتراضا على “المساومة الحرة” على أساس “الحقوق الفردية”، وهذا هو أسلوب الإدارة السائد في الولايات المتحدة، والمتزايد النطاق في أوروبا، الذي يفتح مجالات إضافية، ومربحة للغاية، لاستثمار الفائض. ويؤكد أنه في ظل الرأسمالية، تؤدي كل هذه الاستخدامات للناتج المحلي الإجمالي– سواء مفيدة أم لا- نفس المهمة؛ تمكين التراكم من الاستمرار، رغم القصور المتزايد لدخول العمالة، وفضلا عن ذلك، فالمعركة الدائمة حول نقل العديد من المكونات الأساسية للقسم الثالث، من الإدارة العامة إلى الخاصة، إنما تتيح فرصا إضافية لرأس المال لـ”تحقيق ربح” (وبالتالي زيادة حجم الفائض!)، فتخبرنا الرعاية الصحية الخاصة مثلا أنه “إذا كان يجب علاج المريض؛ فيجب أن يكون ذلك مربحا قبل أي شيء”، سواء للعيادات الخاصة أو المعامل أو شركات الأدوية أو حتى لشركات التأمين. ويشير أمين إلى أن تحليل امتصاص القسم الثالث للفائض يتوافق مع روح العمل الرائد لباران وسويزي، والنتيجة الضرورية له، هي أن نسبة كبيرة من الأنشطة المُدارة بهذه الكيفية، أنشطة طفيلية تضخّم الناتج المحلي الإجمالي؛ فتقلل بشكل جوهري من قيمته كمؤشر على “الثروة” الحقيقية للمجتمع. وتتناقض مع هذا التحليل، الموضة الحالية التي تعتبر النمو السريع للقسم الثالث علامة على التحوّل من الرأسمالية، بانتقالها من “العصر الصناعي” إلى مرحلة جديدة، هي “اقتصاد المعرفة”؛ ومن ثم يستعيد سعي رأس المال اللامتناهي لتحقيق الربح مشروعيته. فيما الحقيقة أن تعبير “رأسمالية المعرفة” متناقض ذاتيّا، فاقتصاد الغد، الاقتصاد الاشتراكي، سيكون حقّا “اقتصاد معرفة”، أما الرأسمالية فلا يمكنها أن تكون كذلك، ولنتخيّل أن تطور قوى الإنتاج بذاته يؤسس– ضمن الرأسمالية- لاقتصاد الغد كما تحاول إقناعنا كتابات أنطونيو نيجري وتلاميذه، فإن هذا سيكون ظاهريّا فقط؛ ففي الواقع يمحو الوجود المكتمل لرأس المال ـ القائم بالضرورة على قمع العمل- الجانب التقدمي لهذا التطور، فهذا التدمير كامن في قلب تطور القسم الثالث، المُصمّم لامتصاص الفائض الذي لا ينفصل عن الرأسمالية الاحتكارية. ويناقش أمين بالمقال الثالث “العمل المُجرّد وجدول الأجور” الفوارق المفاهيمية بين العمل المجرد كمحتوى عام، والعمل الملموس، بسيطه ومعقده، كأشكال استعمالية له– بتعبيرات القيمة التبادلية والاستعمالية- وهو التمييز المفاهيمي الهام لماركس الذي يكمّل تمييزه بين العمل وقوة العمل، كأساس لفهم علاقات الاستغلال، وكيف يتم إنتاج كل شكل من هذه الأشكال، والفوارق بينها في المساهمات في إنتاج واستهلاك القيمة، وكيف أن ما يحكمها ليس فوارق الإنتاجيات الحدّية كما تزعم النظرية النيوكلاسيكية الإنشائية في هذا الصدد، بل علاقات القوى والصراع الطبقي ومتطلبات هيمنة رأس المال مرَّة أخرى! ويقول أمين “بافتراض اختيار عيّنة من مئة عامل من ذلك المجتمع، مُوزعة بين الفئات المختلفة من العمال ‘مختلفي المهارات’ بنسب مماثلة تماما لتوزيعهم في المجتمع ككل ‘الذي قد تصل قوته العاملة مثلا إلى عدد 30 مليون عامل، ونأخذ بالاعتبار، في التحليل المُبسط التالي، فئتين فقط من العمل:1 ـ العمل البسيط الذي يشمل فقط 60 بالمئة من العينة ‘ستين عاملا’. 2 ـ العمل المعقد الذي يضم 40 بالمئة من العينة “أربعين عاملا”، ولنفترض أن كل عام يقدم عمال العينة نفس العدد السنوي من ساعات العمل، ولنقل ثماني ساعات في اليوم و220 يوم عمل في السنة؛ أي يقدم كل عامل منهم سنة عمل مكونة من 1760 ساعة عمل، ولنترك حساب عدد سنوات العمل لوقت لاحق، وهكذا يساهم العامل البسيط ‘غير الماهر’ بسنة ‘عمل بسيط’ في العمل الاجتماعي الإجمالي، في حين يساهم العامل الماهر بسنة ‘عمل معقد"”. ويضيف “نقوم باستخلاص تكلفة تدريب العامل البسيط؛ لأن تدريبه هو التدريب الذي يُقدَم لجميع المواطنين، بينما نأخذ في الاعتبار تكلفة التدريب الإضافي للعامل الماهر، الذي يمتد تدريبه مثلا لمدة عشرة أعوام إضافية، لكل عام منه تكلفة لكل عامل ماهر، تعادل عامين من العمل الاجتماعي؛ لتغطية تكلفة المدرسين وتجهيزات التدريب وتكاليف معيشة الطالب. وهكذا، ففي حين يعمل العامل غير الماهر لثلاثين عاما، سيعمل نظيره الماهر عشرين عاما فقط، بعد أن كرّس العشرة أعوام الأولى للتدريب الإضافي، وستتم استعادة تكلفة هذا التدريب ‘عشرون عاما من العمل الاجتماعي’ على مدى عشرين عاما من العمل، من خلال الثمن الخاص بالعمل المعقد، وبعبارة أخرى، تساوي وحدة العمل المعقد ‘بالساعة أو بالسنة’ وحدتين من العمل البسيط. ينتج عن هذا أن 60 بالمئة من الوحدة المركبة من العمل المجرد، ستتكوّن مما يعادل وحدة من العمل البسيط، و40 بالمئة منها مما يعادل وحدة من العمل المعقد ‘التي تعادل وحدتين من العمل البسيط’، أي أن وحدة العمل المجرد التي يقدمها العمل في مجموعه، تساوي 1.4 وحدة من العمل البسيط”.
مشاركة :