القاهرة: «الخليج» قدّم المفكر سمير أمين، الذي رحل عن عالمنا عن عمر يناهز السابعة والثمانين عاماً، بعد رحلة معاناة مع المرض، مشروعا فكريا تقدميا في مجال الاقتصاد السياسي، أسهم من خلاله في تقديم رؤية مستقبلية للتنمية البشرية في مجتمعات العالم الثالث، عبر عشرات من المؤلفات التي اهتمت برصد الظواهر الاقتصادية في هذه المجتمعات وأفق النضالات المستمرة لتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بها، ظهر ذلك جليا من خلال دراساته المتنوعة التي بدأت برصد المقومات البشرية والتنموية، عاقدًا مقارنات دائمة بين الأوضاع الصعبة التي تفرضها الرأسمالية الجديدة على هذه الدول، ومحاولات بعضها الخروج من أزمتها الاقتصادية الطاحنة.وربما هذا ما نراه واضحا في تركيزه على النماذج الصاعدة في دول العالم الثالث، والتي اعتمدت على الفكر الاشتراكي، ومنها كوبا، كما في الكتاب الذي قام بترجمته وهو «الثورة الكوبية إلى أين.. دراسة في ملامح التاريخ الكوبي واستشراف القرن الحادي والعشرين».. وهو من تأليف جوزيف كانتون نافارو، حيث يؤكد د. أمين في مقدمته لهذا الكتاب أن تاريخ كوبا وتاريخ دول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي يجمع بين عدة خصائص رئيسية مشتركة، إلا أن تاريخ كوبا يتميز بسمات خاصة، فقد كانت كوبا أكبر الأراضي الواقعة وراء المحيط الأطلنطي التي اكتشفت عام 1492م، وقد شهدت كوبا أطول فترات الاستعباد الرأسمالي في العالم أجمع، فهي ثاني المستعمرات التي أدخلت نظام الرق، لكنها كانت قبل الأخيرة في إلغائه عام 1886 أي قبل البرازيل، كما شهدت جلب أكبر عدد من الأفارقة، وهو ما كان يفوق المليون شخص.ويتخذ د. سمير أمين في العديد من كتاباته الأخرى من كوبا نموذجا للتصدي للإمبريالية الأمريكية والرأسمالية المتوحشة، اتخذته بعد ذلك كثير من الدول نموذجا لها، وعن ذلك يقول في إحدى دراساته: «اتسمت دوما علاقة الأمة الكوبية مع حكومات العالم الرأسمالي ودوله المختلفة، بأجواء يحكمها التصدي للإمبريالية والاستعمار والصهيونية والعنصرية وجميع الأشكال الأخرى التي تهدف إلى السيطرة على الشعوب أو قمعها».كان د. أمين يرى أن الاشتراكية هي أحد الحلول المهمة في مستقبل العالم، بشرط أن يرتبط المفهوم بمفهوم آخر موازٍ له وهو التنمية، مشيرا إلى أنه في فترة الخمسينات والستينات نجحت مثل هذه الأفكار، فقد كانت القضية التي تشغل جميع الشعوب المناضلة من أجل تحقيق التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي هي ما أسماه «التنمية الاشتراكية»، وقد كانت هناك حالة من التضافر بين بعض هذه الدول كما حدث في مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي ساند من خلال إيمانه بهذه الفكرة كثيرا من الدول الإفريقية في عملية التحرر الوطني مثل موزمبيق وغينيا والجزائر وأنجولا وغيرها.وقد كان هناك توجه عالمي في هذا الإطار من خلال الحركة الدولية التي تبنتها الثورة الكوبية آنذاك من خلال «مشروع التحرير الوطني» الذي شرع في تنفيذه إرنستو تشي جيفارا الذي كان يتمنى بشدة المشاركة في حرب تحرير شعوب القارة الأمريكية من نير الإمبريالية وهي الأمنية التي أشرك فيها فيدل كاسترو منذ التقائهما بل كرّس لها حياته بأكملها.إضافة إلى توجهاته في تحرير بعض البلدان الإفريقية فقد ذهب جيفارا إلى زائير (الكونغو حاليا) سرًا بصحبة مجموعة من المقاتلين الكوبيين من أجل تقديم التدريب العسكري لمقاتلي حرب العصابات المحليين، وقد كان يعلم ميدانيا كمعلم لحرب العصابات، وكان يدرس الثقافة العامة في المدارس كما كان يمارس مهنته كطبيب في قلب جموع الفلاحين والجنود.ويؤكد د. أمين أن جيفارا كان أحد النماذج المهمة في الدفاع عن الفكر الاشتراكي والموقف الإنساني بشكل عام. الهامش الاجتماعي لم يكن اهتمام د. سمير أمين بفكرة الهامش الاجتماعي نابعا من فراغ، فقد كرس لهذه القضية أكثر من خمسين عاما من البحث والرصد والتحليل، مستفيدا من أفكار «أنطونيو جرامشي» الذي كان يرى «أن قدرة أي طبقة اجتماعية على الصعود وتحقيق الهيمنة على المجتمع تكمن في قدرتها على تكوين مثقفين عضويين مرتبطين بها، وكذلك في قدرة هذه الطبقة على استيعاب المثقفين التقليديين المنحدرين من فترات تاريخية سابقة».وإذا كان «جرامشي» صاحب مصطلح «المثقف العضوي» يرى أن العلاقات الاقتصادية تعد محركا للتاريخ، وأن الوعي له من الأهمية في تغيير البنى الاقتصادية، فإن د. أمين كان يتفق مع هذه لكن بشرط أن تحقق هذه العلاقات الاقتصادية مصالح عامة تخص القاعدة الشعبية العريضة، بعيدا عن شراسة الرأسمالية المتوحشة، وبعيدا عن فكرة الهيمنة من أجل خلق مجتمع مدني قائم على الديمقراطية الصحيحة، كما كان يتفق مع جرامشي أيضا في أن كل معرفة لا يمكن أن تنفصل عن تبديل الإنسان لواقعه، وهنا يذهب إلى وجهة نظر ماركس القائلة إن «دور الفلسفة ليس الوصف إنما العمل على التغيير أو قلب النظري إلى عملي أو تحويل العقلي إلى واقعي».وربما هذا التوجه ما جعل د. سمير أمين منذ البداية ينحاز إلى القضايا التي تخص العالم الثالث، فقد شارك خلال حياته العملية في تأسيس عدد من مراكز البحث التي تهتم في الأساس بعملية التنمية البشرية، ومن هذه المراكز «منتدى العالم الثالث» الذي تولى رئاسته لسنوات طويلة، وكذلك «المجلس الإفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية والاقتصادية»، ومن خلال مؤلفاته الفكرية المتعددة، قدم رؤى سياسية واقتصادي تهتم في الأساس بتقريب الهوة ما بين المراكز والأطراف، من خلال إعادة قراءة جادة لنظرية «المادية التاريخية» في إطار السياق المعاصر، وعلاقة ذلك كله بأنماط الإنتاج المختلفة، ما يهدف إلى «إيجاد السبيل المناسب للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية» على حد تعبيره.في هذا الصدد قدم رؤية اقتصادية متكاملة وشاملة، في إطار فكري عن مستقبل دول العالم الثالث وعلاقتها بالتحولات العالمية، ومن مؤلفاته في هذا الإطار كتابه المهم «التراكم على الصعيد العالمي»، والذي صدر عام 1973، والذي أتبعه بكتاب آخر في غاية الأهمية وهو «التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة» الصادر عام 1974، وظل يؤكد هذه الأفكار في كتبه التالية، ومنها كتاب «الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الإمبريالية»، وكتاب «أزمة الإمبريالية.. أزمة بنيوية».كما اهتم د. سمير أمين أيضا بنقد الذهنية المحافظة، التي تنحاز إلى الماضي دون النظر إلى الحاضر أو المستقبل، نجد ذلك واضحا في كتابة المعنون ب«في نقد الخطاب العربي الراهن» والصادر عام 2009، الذي تضمن دراسات متنوعة عن علاقة الثقافة بالمجتمع، ودور العقل في تحرير القدرات البشرية نحو الأفضل ودور المثقف في المجتمع الحديث، باعتباره رافدا أساسيا من روافد التغيير والتطوير.وفي كتابه «في نظرية الثقافة» الصادر عام 1989 نجد انحيازا واضحا للفكر التقدمي القائم على ضرورة الاستفادة من الأطروحات العلمية والفلسفية التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، أما كتابه المهم «حوار الدولة والدين» الصادر عام 1996، فقدم من خلاله نقدا حادا للتطرف الفكري وخطورته على المجتمع العربي.وفي دراساته التي نشرت بلغات متعددة ذهب د. أمين إلى وضع تصورات عقلانية من أجل إيجاد حلول موضوعية لكثير من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية التي ينوء بها كاهل الإنسان المعاصر في مختلف دول العالم وبالتحديد في العالم الثالث، كان ذلك من خلال فكر حداثي متعدد الأبعاد، ينحاز إلى الجوهر الإنساني في الحداثة، ومن مقولاته الشهيرة في إحدى هذه الدراسات:وكان د. أمين يرى أن حركة التاريخ غير ثابتة فهي متطورة حسب الوقائع والأحداث فلا تسير في خط مستقيم، وخلال هذه المسيرة توالت كثير من النظريات، لكن بقي الإنسان وتفاعل معها، وعن ذلك يقول: إذا كان تعريف الحداثة هو أن الإنسان يصنع تاريخه، فإن هذه المقولة غير قابلة للتجاوز بالمرة. الحداثة لا نهاية لها، وستظل طالما استمرت الإنسانية تعيش علما أن الحداثة القائمة في لحظة تاريخية معينة تعني الحدود الخاصة بهذه اللحظة، وفي المرحلة الراهنة يتطلب تقدم مفاهيمها تجاوز حدود العلاقات الاجتماعية الخاصة بالرأسمالية.وكان د. سمير أمين رافضا وناقدا للنظام العالمي الجديد، فمن وجهة نظره أن التوسع الرأسمالي يؤدي إلى زيادة التناقضات الاجتماعية والنزاعات القومية. وطرح من وجهة نظره مجموعة من الحلول للخروج من هذه الأزمة العالمية، ومنها إعادة بناء عالم متعدد الأقطاب، وهو من وجهة نظره خيار استراتيجي يضمن احتمال إقامة منظمات عالمية شعبية مستحدثة تجمع شعوب القطاعات الثلاثة للعالم وهم على حسب تعبيره «العرب والشرق والغرب».كذلك ضرورة إخضاع العلاقات الخارجية لاحتياجات التنمية الداخلية بديلا عن تكيف التنمية الداخلية لاحتياجات القوى المهيمنة على العالم، ويتم ذلك من وجهة نظره من خلال ما سماه «النظام الوطني الشعبي». حبيب الصايغ: خسارة فادحة للثقافة العربية نعى الشاعر والكاتب الصحفي الإماراتي حبيب الصايغ، الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، سمير أمين، وقد أرسل الأمين العام برقية عزاء إلى الدكتور علاء عبدالهادي رئيس اتحاد كتاب مصر ومجلس إدارته، ومن خلالهم إلى الأدباء والمثقفين المصريين جميعا، حيث يعد الدكتور سمير أمين أحد أبرز الشخصيات الثقافية المصرية، التي أضافت إلى رصيد الثقافة العربية الكثير من الأسماء والإنجازات في المجالات جميعاً من فكر وأدب وفن. وقال الصايغ إن المفكر المصري الكبير عمل مستشاراً اقتصاديّا في عدة دول إفريقية مثل مالي ومدغشقر، كما عمل مديراً لمعهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادي بداكار بالسنغال طوال سنوات السبعينات، وشارك في تأسيس منظمات بحثية وعلمية إفريقية مثل المجلس الإفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية والاقتصادية «كوديسريا» ومنتدى العالم الثالث. وأكد الصايغ أن الثقافة العربية بمفهومها الواسع الجامع خسرت خسارة فادحة برحيل الدكتور سمير أمين، المفكر الذي انحاز إلى الفقراء، وأسهم في تنمية اقتصاديات دول فقيرة في إفريقيا، والذي تصدى لمقولات عديدة سائدة عن التنمية والتحديث وخطط المؤسسات المالية الدولية، روجتها القوى الرأسمالية العالمية لتبرر بها الاستيلاء على موارد دول الجنوب في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث قدم أمين مجموعة من القراءات لعدد من القضايا الأساسية، مثل العلاقة بين المركز والاطراف، التبيعة والعوالم الأربعة، ومحاولة لتجديد قراءة المادية التاريخية وأنماط الإنتاج.
مشاركة :