ما كادت العلاقات الأمريكية التركية التي يشوبها شيء من التشويش، تتلقى نفحة تلطيف تمثلت في التعاطي الإيجابي من جانب الولايات المتحدة الأمريكية مع الخطوة التركية بشأن توقف عملياتها العسكرية في شمال شرق سوريا والتي استهدفت بالدرجة الأولى حلفاء واشنطن من الأكراد السوريين، وهي العملية التي دفعت بأمريكا إلى فرض عقوبات «رمزية» على الحليف التركي، لكن هذه النفحة التلطيفية سرعان ما فقدت تأثيرها على هذه العلاقات بعد الخطوة غير المسبوقة من جانب مجلس النواب الأمريكي الذي صوَّت مؤخرا وبأغلبية ساحقة على قرار يعترف بالقتل الجماعي للأرمن على أيدي قوات الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى واعتبار هذا الحدث على أنه «إبادة جماعية»، الأمر الذي يثير حساسية شديدة لدى الأتراك. سبق للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما أن تعهد بالاعتراف بهذا الحدث على أنه «إبادة جماعية» لكن ذلك لم يتم خلال ولايتيه الرئاسيتين، فيما تحاشى الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب إطلاق وصف «الإبادة الجماعية» على هذه الأحداث التي مر عليها ما يزيد على المائة عام، لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية من بين الدول الثلاثين التي اعترفت حتى الآن بأن هذه الأحداث هي «إبادة جماعية» للأرمن، لكن مستجدات سياسية كثيرة حدثت في السنوات الأخيرة انعكست سلبا على العلاقات الأمريكية التركية دفعت بالكونجرس الأمريكي نحو اتخاذ هذه الخطوة. مرت العلاقات بين الجانبين في ظل القيادة السياسية الحالية التركية برئاسة حزب العدالة والتنمية بعثرات كبيرة، تأتي في مقدمتها اتهام أنقرة، دون أن تسمي ذلك صراحة، الجانب الأمريكي بدعم محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي وقعت في تركيا في 15 يوليو 2016 واتهام أنقرة للداعية فتح الله جولن المقيم في أمريكا بالوقوف وراءها ومطالبة واشنطن بتسليمه ورفض الأخيرة، إلى جانب ذلك جاء التقارب الروسي التركي ورفض أنقرة الانصياع للتهديدات الأمريكية بشأن صفقة صواريخ أس 400 الروسية وأخيرا الغزو التركي لشمال شرق سوريا الذي استهدف بالدرجة الأولى حلفاء واشنطن الأكراد السوريين. الأحداث التي يصفها الأرمن ومعهم عدد من الدول بأنها «إبادة جماعية» ذهب ضحيتها ما يقارب المليون ونصف المليون أرمني أما من قُتلوا خلال الحرب العالمية الأولى أو هلكوا في الشتات بسبب الجوع والعطش، وبعيدا عن كل هذه الأوصاف والأسباب والأرقام، والمواقف منها، فإنه بعد مضي أكثر من مائة عام يأتي مجلس النواب الأمريكي ويعترف بأنها كانت «إبادة جماعية»، الأمر الذي يؤكد أن هذا الموقف الأمريكي الجديد، لا يستند على أي مبدأ إنساني على الإطلاق، أكثر ما هو شكلٌ من أشكال الانتقام السياسي من الحليف التركي. القرار الأمريكي، وإن وصفه وزير الخارجية التركي مولود تشاووش بأنه، أي القرار «بلا أي قيمة» وأنه جاء بعد «أن أحبطت تركيا مؤامرة كبرى بهجومها في شمال شرق سوريا، وإن تحرك مجلس النواب الأمريكي يهدف «للانتقام من هذه الخطوة»، فإن له، بكل تأكيد تأثير وانعكاس سياسي على العلاقات بين البلدين ومن شأنه أن يزيد من تعكيرها، أكثر مما هي عليه الآن، وقد يدفع بالجانب التركي نحو اتخاذ مواقف انتقامية كردة فعل على ذلك، مثل زيادة التقارب مع روسيا، وهذا موضوع حساس بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تواجه ما يشبه المأزق، والفشل في نفس الوقت بالنسبة إلى الملف السوري. تركيا من جانبها لا تنكر وقوع مأساة إنسانية وهي تعترف بحدوث فظائع لكنها تعللها بكونها وقعت في سياق الحرب، وأنها لم تحدث بنية مبيتة لإبادة المسيحيين الأرمن، لكن هذا التفسير التركي لم تقبل به عديد من الدول، وبعيدا عن مدى صحة الوصف الذي اعترفت به بعض الدول وتنكره تركيا، فإن المهم في الموقف الأمريكي الأخير، أنه في الواقع لا يعدو كونه استغلالا سياسيا رخيصا لمأساة إنسانية يقر الجميع، بما فيهم المتهمون بارتكابها، أي الأتراك، أنها مروعة، ومن المعيب أخلاقيا أن تستغل لتصفية حسابات سياسية بعد مرور أكثر من مائة عام على وقوعها. بعد الموقف الأمريكي الأخير فإن كل التوقعات ترشح العلاقات الأمريكية التركية إلى مزيد من التدهور وقد ألمح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أدان موقف الكونجرس الأمريكي من مأساة الأرمن، إلى ما يمكن أن يتركه هذا القرار الأمريكي على خطة الزيارة المرتقبة للرئيس التركي لواشنطن المخطط لها يوم 13 نوفمبر الحالي، فالمسألة الأرمينية بالنسبة إلى الجانب التركي تتسم بالحساسية المفرطة، وترفض تركيا بالمطلق وصف ما حدث على أنه «إبادة جماعية»، والأمر من حيث المبدأ خاضع لأهواء ورغبات، بل ومصالح سياسية ولا علاقة له البتة بمصير الضحايا، ولا بالطريقة التي سقطوا بواسطتها.
مشاركة :