في الأصل لا يوجد هناك مسمّى معتمد في الرواق العربي باسم مثقف شيعي أو مثقف سُني، بل المحضن الطبيعي والتسمية الاعتبارية هي مثقف عربي لسِمات مشتركة في الوعي أو في التفكير أو جذور حركة الثقافة العربية ببعدها الجغرافي، والإسلامي والإنساني، أو مثقف يُنمى لإقليمه كأن يُقال من الخليج العربي أو أقطاره أو من مصر وسوريا أو المغرب العربي، وهكذا. لكننا اليوم نطرحه وإن استُدعي مؤخراً، وسط الزخم الطائفي الذي تعيشه المنطقة، لتوضيح أمرٍ مهم وفارقٍ كبير جدا، في ظل حركة الثقافة والبناء الوطني في المنطقة العربية بغض النظر عن المذهب الديني لحملتها، وتداخل ذلك مع الكادر الطائفي الذي تشكّل في دول المشرق العربي ومنها دول الخليج العربي وأصبح ترساً مباشراً وقاعدة تأسيس لذراع إيراني سياسي، وُظّف ثقافيا فسياسياً، ثم عسكريا، فيما بعد في عدة بلدان. فالأول أي المثقف الشيعي، الذي يتداول الشؤون المشتركة للثقافة العربية وإن نزعت عليه أحيانا غلبة تعصب مذهبية، كما قد تجري على غيره، أو تطارح حقوق الطائفة أو همومهم في ميدان حوار وطني أو نقد فكري وليس في بازار المشروع الإيراني ورعاته الأمريكيين منذ إشعالهم لمفهوم المحاصصة الطائفية، الذي نفّذه الإنجليز قديما، ثم استنسخته بعنف التجربة الأمريكية من بعد احتلال أفغانستان، فهذا المثقف يبقى في دائرة القبول والتعاطي المنفتح ويُجادِل ويُجادَل في مسارات الوعي العربي الحديث وفقه صناعة الإنسان وحقوق المواطنة. لكن الثاني الذي يُصنّف في مضمار هذا المثقف ليس كذلك على الإطلاق، إن صناعة المشروع الإيراني ثقافياً استغلت صرخات باسم الحق الشيعي والأقلية الشيعية والأمور التعبدية الذاتية، فقط كمظلة صُنع تحتها فكر وبناء أرضي، أنتج أيدلوجية موالية لها كلياً، وأضحت هذه الجموع لا تخضع أبدا لمنطق المصالحات الوطنية والموقف العربي لآمال الإصلاح الدستوري والحياة الفاضلة التي يخرج بها المواطنون العرب من مسارات فساد أو انحراف أو قهر سياسي. ولكنها تبنّت المظلومية الطائفية كمشروع استراتيجي مرحلي، يتخذ بعض الخطاب الدستوري والشراكة الوطنية سُلماً لهذه الرغبة، في حين لا ينفصل أبداً عن فكرة المظلومية الطائفية، وعزلها عن بقية الشعب من غالبيات كبرى ووطنية، تسعى للإصلاح وإعادة البناء الدستوري لكل مواطن وفرد في ظل سور الاستقلال الأُممي والوطني، بل ظل هذا الكادر يُتاجر بهذه المظلومية ويُقدم لها وعبرها من البيت الأبيض الى بيت قُم كل وسيطة تصنع مشروعا منفصلاً عن الوطن العربي وأقاليمه وعن الأمة، وهو يزايد على الفكر العربي، بضجيج الحرس الثوري وذراعهم في لبنان حسن نصر، في حين يُسخّر مشروعه في العراق أو سوريا ثم الخليج العربي مطيّة لمصالح الغرب التقسيمية. هذا الكادر الذي يُجيد النواح والصياح، لم يكن يوما أبداً في مصالح المعالجات الاجتماعية بين المواطنين الشيعة وبين مواطني الغالبية العرب من السُنة، بل كان جسراً لخلق بؤر التوتر، وطوال فترة اهتمامي بملف التدخل الإيراني الذي يضربنا بيده وبيد واشنطن وتل أبيب في العقدين الماضيين، لاحظتُ أمراً مهما لدى هذه الكوادر، فهي لا يعنيها أبداً اهتمامك بنبذ أي خطاب قد يُشكل خطراً على المجتمع أو يخلق احداث عنف أو يغبن مظلوما شيعيا بريئا، ما دمتَ تفرز المشروع الإيراني وسياساته وأذرعته وتكشف خطره. فيظل تُحركه قضية نقد المشروع الإيراني ويُحرّض المجتمع الشيعي على كل من يواجهه بل ويشيطنه، حتى ولو كان داعية خطاب إسلامي مدني يسعى لحياة وطنية لكل أبناء الشعب، ولكن بقوة الدولة الوطنية واستقلالها السيادي، فلقد كان هذا الكادر عنصر الفصل والأزمة بين المجتمع الشيعي وبين المجتمع الوطني، وهذا لا يعني عدم وجود غُلاة ومتطرفين من الطرف الآخر، فذلك موجود، لكنه كان دائما يُسخّر الأحداث وفقاً لأيدلوجية المشروع الإيراني وليس أبداً للمصلحة الوطنية الاجتماعية، وكان يُراهن عند كل دائرة ومفصل في خلق عتبة جديدة للمظلومية الطائفية تخلق بناءً لمجتمع منفصل. إن اعتقاد البعض بأن الارتباط بالمشروع الإيراني رهناً بالإيمان بفكرة الخميني في نظرية ولي الفقيه، هو خطأ، فالتوظيف للمشروع الإيراني لم يكن مقصوراً على من يؤمن بذلك، بل اخترق مجتمعات شيعية عديدة عبر فكرة المظلومية الطائفية المنفصلة عن الهم الوطني الجمعي، ونفّذت كوادرها أسس ومسارات الانفصال بينها وبين المجتمع العام وعزّزته، عبر تضخيم حالة المآتم وثقافة الانتقام لآل البيت من المجتمع الآخر والتي لم تكن بهذا الوضع لدى الحالة الشيعية قبل الثورة الإيرانية، وكانت الجسور الاجتماعية ممتدة ومتواصلة بعلاقات تعايش بل ومودة. ومن أهم الأدلة على نفاق هذا الكادر والدور الانفصالي والتصعيدي المتطرف له، أنك لن تجده أبداً في صف مثقفي الحالة الشيعية الذين حاولوا نقد تراث ضخم من الخرافات والتحريض وتأسيس وجدان الطفل على العداء للإنسان المسلم الآخر، أو طرحوا مساحة الإنسان في الثقافة الشيعية المعاصرة والتي حاصرتها، أرتال من خطاب الكراهية أو غَبن المرأة أو الحق الاجتماعي في الحياة، بل هذا الكادر الذي قد يُنعت بمثقف حضاري، كان جزءًا من سلاح الحصار للمشروع الإيراني لنبذ المثقف الناقد، وتعزيز الهجوم عليه. وفي مضمار حركة أئمة الإصلاح الشيعي من المتقدمين أو المتأخرين في التوضيح للرأي العام الشيعي أكذوبة كسر سيدنا عمر لضلع السيدة الزهراء وغير ذلك مما فنّدها اصلاحيون شيعة أو خطاب المعاصرين كمهدي شمس الدين أو السيد علي الأمين وغيرهم، ممن دعوا بقوة وتَتَابُع الى نبذ التعصب ومواجهة الفتاوى أو الإرث التكفيري في التراث الشيعي، بل العكس تجده منخنساً أمام ما يتعرضون له من هجوم إيراني أو تهميش، فيما يتواجد في الصف الأول من قضايا إيران ومنابر فتنتها. هنا يتضح الفرق المهم بين هذا الكادر الذي تحول في العراق وسوريا واليمن الى مشروع تنفيذي مباشر، وخطورة النفاق الثقافي الذي يمارسه، وبين مثقف شيعي أو مجتمع مدني عام يُشارك وله حق المواطنة، كما عليه واجب رعاية حق السيادة الوطنية والأممية أمام حروب إيران المتعددة، ولنا حديث مستقبلاً عن دور الخطاب العربي والإسلامي في رعاية أمة الشرق أمام فتنة مشروع إيران. كاتب وباحث اسلامي ومحلل سياسي
مشاركة :