الشيفرة أو النظام الخفي في السيميائية حوار مع تشاندلر في كتابه (أسس السيميائية)

  • 11/8/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

‏ لا يمكن في البداية أن أجزم بقدرتي على إدراك هذا النظام الخفي الذي يُديرُ كثيرًا من الإشارات بل يعمل على إلباسها معاني متوافقة مع العقل الجمعي الذي تحرّكه الأيديولوجية الخاصة به. وبعد هذا الاعتراف، يمكن أن نبتدئ من مفهومين‏ في نظام الشيفرة حتى نستطيع مسح الغبار عن خريطة ‏فهم الإشارات من حولنا، وهذان المفهومان هما: الشيفرة، والإشارة. ‏ويعلم كلُّ مشتغل في النقد والأدب أنّ مفهوم (الشيفرة) أمرٌ أساسي في التحليل السيميائي أو لنقل التدقيق السيميائي، وقد شدّد (سوسير) على أنّ الإشارات لا معنى لها منفردة، ولا تحمل معنى حتى تفسّر من حيث علاقتها ببعضها. ‏هنا يضعنا (سوسير) في مواجهة ما ينتج أثناء قراءتنا للنص من خلال تتبع الإشارات حيث إنه يمكننا فهم الإشارات في مجموعات أو أُطُرٍ معيَّنة، وحينئذ نستطيع أن نقول: هذه الإشارات تنطلق من شيفرة كذا، أو الذي يبرهن على وجود الشيفرة الفلانية هو الإشارات التالية... ‏وسنجد بعض المنظّرين يفرقون بين اللغة والكلام، كما أن فريقًا آخر يُفرّق بين الشيفرة والمُرسلة، فاللغة تُنتِجُ أشكال الكلام؛ لأنَّ اللغة معانٍ مضمرَةٌ في النفس، والكلام طريقة وأثر لهذه اللغة يظهر بأشكال متعددة صوتية وكتابية وتشفيرية ورقمية وإشارية وتعبيرية. ‏إذن، اللغة معنى والكلام مظهر. ‏وكذلك نجد الشيفرة والمُرسلة عند (رومان جاكوبسون)، فالشيفرة معنى والمُرسلة مظهر لهذه الشيفرة، ولكن ليست الشيفرة لغة عند (رومان جاكوبسون) بل الشيفرة شيء ذهني ينضِّم حركة الإشارات لخدمة فكرة أيديولوجية يرتضيها العقل السائد في ثقافةٍ معيَّنة. ‏وأفهم من تقسيم (جاكوبسون) أنّ الشيفرة قد تشمل عدة مُرسلات لعدد من الأشخاص بعدة أشكال وأجناس قولية أو غير قولية؛ لأنّ الشيفرة مثل الفكرة الأسطوريّة، وهذه المماثلة ليست إلا في أنها تنظم ما تحتها وتتصل بأيديولوجية المجتمع، ولو دقّقنا النظر قليلا لربما ظهر لنا أنَّ الأساطير -أيضًا- إشارات تعمل داخل إطار الشيفرات، وأتذكّر هنا المجتمعات الوثنيّة التي يكثر فيها الشكل الأسطوري أدبًا ونظامًا وتصويرًا. ‏ويقول تشاندلر في هذا السياق ما يلي: «تنظّم الشيفراتُ الإشاراتِ في منظوماتٍ ذات معنى تُحدِثُ تلازمًا بين دالات ومدلولات ‏وذلك بوساطة الأشكال البنائية للتراكيب والجداول الاستبدالية» ويتداعى إلى ذهني الآن بعد قراءة كلام (تشاندلر) إدراك سيبويه -رحمه الله تعالى- العميق للنظام أو الشيفرة -تماشيًا مع خطاب السيميائية- لعمل العرب اللغوي عندما يقدّمون كلمةً في التراكيب -ومنه باب التقديم والتأخير في البلاغة- ‏فالتقط سيبويه -رحمه الله تعالى- الشيفرة التي تدفع العرب لذلك، وعبّر عنها بأنهم يقدِّمون الذي بيانُهُ أهم وهم بشأنه أعنى. ‏إذن، يتوصل سيبويه إلى شيفرة الترتيب في الذهن العربي من خلال تحليله لإشارات التراكيب وأشكالها، فيلتقط هذا الإطار الذي ينظِّمُ حركة الكلام من خلال ‏تقديم بعضه على بعض داخل التركيب الواحد مع مقارنة ذلك بالتراكيب الأخرى. ‏ويظهرُ في ذهني أنّ البلاغة العربية تتبعت أشكال التراكيب في العربيّة لعلَّها تصل إلى هذا السِّرِّ العميق الذي ينظِّم كثيرًا من الإشارات، وقد تكلّلت بالظفر في جانب إدراك شيفرة (الاستعارة) التي تقوم على ‏الادّعاء بالدليل، وشيفرة التشبيه التي تقوم على إلحاق الناقص بالكامل، وكلا هاتين الشيفرتين تعملان ضمن شيفرة (التفارق أو التناقض) في رأيي؛ لأنني عندما أستعير أو أشبّه فإنني أجزم أو أتحدث بالشكل اللغوي عن درجة التناقض بين الطرفين والتي هي في التشبيه أكثر وضوحًا منها في الاستعارة. والحقيقة التي ينبغي لنا ألا نُغْفِلها هي أننا عندما نعلو فوق الأشياء لنحللها لا نبحثُ عن جمالها أو عبقريّتها بل نبحثُ عن ذلك النظام الخفي الذي يديرها، وهذا هو شأن سيميولوجية سوسير، وسيميائية بيرس اللذين حاولا اكتشاف النظام اللغوي في العصر الحديث إلا أنّ الجهود العربيّة المثبتتة في كتبهم تشير إلى أنَّ خصوبة تفكير سيبويه كانت ‏مثيرةً، إذ مكّنته من اقتناص شيفرة التقديم والتأخير في التراكيب العربيّة، ويمكن لنا أن نقول: إنَّ التفكير العربي يحملُ في طيّاته كثيرًا من المفاجآت متى ما كانت عقولنا موازيةً لتلك العقول المتقدّمة في التفكير -كسيبويه وغيره من العرب وسوسير وبيرس من المهتمين بالشأن اللغوي الإنساني- من ناحية الخصوبة والمرونة والاتساع المعرفي. ‏‏وعلى المستوى الاجتماعي تحمل الشيفرات في السيميائية بُعدًا اجتماعيًا يتمثّل في تمثيلها للمألوف داخل وسيلة اتصال معيّنة ضمن إطار ثقافي محدد. ‏بمعنى: الشيفرة تظهر في وسيلة الاتصال مثل (القصيدة العمودية) ضمن الإطار الثقافي المتمثل في الأدب الجغرافي أو الأدب الفكري ‏أو الأدب السياسي وهكذا، ونلاحظ أنّ هذه الشيفرات تبرز جانب الانتماء للإطار الثقافي؛ لأنها تخضع لمعايير التآلف بين أصحاب الممارسة الثقافية الواحدة. ‏ومن جهة أخرى يرى بعض البنيويين أنّ هذه الشيفرات مماثلة للغة المنطوقة وهذا يعني أنها لغة أخرى غير اللغة المعروفة؛ لأنّ التماثل لا يكون إلا بين متناقضين ويأتي التماثل بينهما قياسًا تقريبيًا للمماثل على المماثل به لهدفٍ مهم. ‏وبناء على هذا التماثل تصبح كل الأشياء الخاضعة للإنسان عبارة عن لغة مشفّرة تحمل داخلها إشارات فيها دلالات تعيينية وضمنية من خلال فهم الدال والمدلول، فالتماثيل في الأمم السابقة وطرق هندسة الري وتصاميم الملابس هي لغة مشفرة مغايرة للغة البشرية لكنها مماثلة لها من ناحية حمل الإشارات وإضمار المعاني وثنائية الدال والمدلول، وهنا يقول إدموند ليتش: ليس الحديث عن القواعد النحوية التي تحكم لبس الثياب بأقل مغزى من الحديث عن القواعد النحوية التي تحكم المقول من الكلام. ‏وهذا الكلام يبرز لنا أنّ العالم الذي يتدخل الإنسان في إعادة تشييده ليس جزءًا من النمو الطبيعي للحياة بل هو جزء من التفكير اللغوي الذي ينظّم رؤيتنا للحياة، ويسمح لنا بترتيب الأشياء وفق القواعد والمقولات الأساسية في العقل البشري، وهذا يذكّرني بآراء ‏ديكارت حول نظرية المعرفة، فالمعرفة وإن كانت الحواس تسهم في تزويدنا بها، لكنها ليست عبر الحواس بل هي عبر المقولات الأولى الموجودة داخل العقل وهذه المقولات تسهم في تزويدنا بالمعرفة لا الحواس. إذن، نحن أمام حقيقة تقول: إنَّ بداية انطلاق التفكير السيميائي تكون من الفلسفة التي يقتنع بها المفكِّرُ السيميائي.

مشاركة :