التخوفات الإيرانية من ثورتي العراق ولبنان

  • 11/8/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تمثل الثورات التي تجتاح العراق ولبنان؛ احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية المتردية المتمثلة في تزايد معدلات البطالة والفقر، وتوقف النمو الاقتصادي، والفساد، تهديدا مباشرا لإيران، وتخوفا من «انقلاب السحر على الساحر»، فهي موجهة بالأساس ضد النظامين السياسيين في البلدين، وهما بمثابة وكيلين لطهران التي تتحكم في الأوضاع السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية في كلا البلدين. وتمتلك إيران نفوذا واسعا في كل من العراق ولبنان من خلال عملائها من أحزاب سياسية محلية موالية بشكل كامل لسياساتها في المنطقة، ومليشيات مسلحة، بالإضافة إلى تأثيرات ذلك على الاقتصاد الوطني. وغالبا ما تستفيد من حالة الفوضى في الشرق الأوسط، وتتبنى سياسة خارجية تهدف إلى توسيع وتعزيز قوتها وقابليتها للتأثير، وإلى تأكيد ما تعتقد أنه حقها الطبيعي في هيمنتها الإقليمية. وكأحد نتائج حرب الخليج الثالثة وفوضاها؛ فرضت نفوذها التام على العراق، من خلال سيطرتها على الحكومات المتعاقبة، فضلا عن تبعية المليشيات الشيعية العراقية لها، مثل الحشد الشعبي. وخلال فوضى الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي أنشأت «حزب الله» اللبناني؛ ما جعل لها نفوذا متزايدا في لبنان، فضلا عن الأحزاب الشيعية الأخرى وأهمها «حركة أمل». ومن ثم فالثورات ضد هذين النظامين هي ضد مصالح إيران بالأساس. وفي ظل حالة العزلة السياسية التي يعانيها النظام الإيراني عالميا؛ نتيجة لممارساته المزعزعة للاستقرار، وفي ظل عقوبات اقتصادية شديدة وفرض سياسة «أقصى ضغط» عليه؛ كان يتشبث بأمل البقاء من خلال الاستثمار في نفوذه ومليشياته في دول القوة والمركز بالنسبة إليه، هي العراق ولبنان، بل فتح آفاق جديدة للنفوذ في اليمن وسوريا، غير أن وجود هذه الاحتجاجات قد شكل تهديدًا وخوفا لهذا النظام؛ فهو بمثابة عودة الروح الثورية ضد نُظم فشلت في تحقيق مطالب المواطنين، الأمر الذي يعكس إمكانية سحب البساط من تحت أقدام النخبة السياسية في تلك الدول، ويشكل تهديدا للوجود الإيراني فيها. وترى «فرناز فصيحي»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن إيران «أينما تفوز تسود الفوضى، ومع ذلك فقد كشفت الاحتجاجات الأخيرة مدى هشاشة النظام أمام العالم». ووفقا لـ«حنان غدار»، في «مجلة فورين بوليسي»، فإن هذه المظاهرات التي تميزت بطابعها الوطني وثارت على النظامين اللبناني والعراقي، هي «بمثابة فشل لطهران، التي سعت سنوات لتعميق نفوذها، سياسيا من خلال السيطرة على الحكومات، وعسكريا من خلال مليشياتها المسلحة، مرجعة ذلك إلى اهتمامها بالنفوذ السياسي والعسكري، دونما اهتمام بإيجاد رؤية اقتصادية واجتماعية في البلدين». وكما يقول «نيل كويليام»، من «معهد تشاتام هاوس» بلندن، فإن «طهران التي عملت سنوات على بسط نفوذها في هذين البلدين تعتبر التظاهرات تهديدا حقيقيا ضد مصالحها، لأنها وطنية في صميمها وتمثل تحديا للسلطة السياسية المدعومة من إيران». وبناء عليه تحاول، كما يقول «فواز جرجس» من «كلية لندن للاقتصاد»، «الإبقاء على مسافة بينها وبين التوترات المتصاعدة في كلا البلدين، لكن قدرتها على القيام بذلك محدودة، إذ إن حلفاءها المحليين والجماعات المسلحة مستهدفون من قبل المتظاهرين». وتبدّى القلق الإيراني من هذه الاحتجاجات في ثلاثة مظاهر: أولها: وصف النظام الإيراني لها بأنها «أعمال شغب وعنف تهدف لإضعاف الدول»، معتبرًا أن أي تغيير في نظام الدولتين بمثابة فقدان ولاء الحكومتين المواليتين لطهران في كل من بغداد وبيروت، وهو ما ظهر في اتهام المرشد الإيراني «علي خامنئي» قوى خارجية بالتدخل في شؤون الدولتين، واتهام الولايات المتحدة والاستخبارات الغربية بتمويل هذه الحراكات الشعبية من أجل «تأجيج نار الفوضى»، بوصفها «الدول الرجعية»، على حد تعبيره. ويتشابه هذا الوصف مع خطاب «حسن نصر الله» الأمين العام لحزب الله، واتهامه للمتظاهرين بأنهم «مدعومون من جهات أجنبية تناصب العداء للبنان»، وأن الحراك يمكن أن يؤدي إلى «حرب أهلية»، رافضا الدعوات المطالبة باستقالة الحكومة والرئيس، قائلا: «لا نقبل الذهاب إلى الفراغ، لا نقبل إسقاط العهد، ولا نؤيد استقالة الحكومة، ولا نقبل الآن بانتخابات نيابية مبكرة». ثانيها: زيارة «اللواء قاسم سليماني» قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني لبغداد بعد يوم واحد من اندلاع الاحتجاجات، ومخاطبته المسؤولين العراقيين بالقول: «نعرف في إيران كيفية التعامل مع الاحتجاجات وكيفية السيطرة على الأمور». ولوحظ أن الاشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين ازدادت ضراوة بعد يوم من هذه الزيارة، وارتفعت حصيلة القتلى بسبب استهداف قناصين منتمين إلى جهة مجهولة للمتظاهرين إلى نحو 150 شخصا خلال أقل من أسبوع. ثالثها: تصوير الإعلام الإيراني الأحداث في البلدين بطريقة سلبية، ووصف المعلقون في الصحافة الرسمية لها بأنها «فتنة»، وهو ذاته ما استخدم لوصف التظاهرات المعادية للحكومة الإيرانية عامي 2009 و2017. وتمثلت أبرز المظاهر في دعوة الكاتب «حسين شريعتمداري»، رئيس تحرير «صحيفة كيهان» المحافظة ومستشار خامنئي، للعراقيين واللبنانيين بالاستيلاء على السفارة الأمريكية، وهو ما يمكن التعرف على دلالته من معرفة رد الفعل الإيراني إزاء هذه الثورات. ووفقا للعديد من المحللين فإن القلق الإيراني إزاء هذه الثورات يرجع إلى عدة أسباب منها: أولا: خشية النظام من فقدان النفوذ داخل هاتين الدولتين، حيث استخدمت حكوماتهما كمخلب قط لها في صراعها على الهيمنة الإقليمية في المنطقة، من خلال مساعدتها في اتخاذ سياسات اقتصادية وسياسية لصالحها، مكنتها من امتصاص ثروات هذه البلاد. ويظهر ذلك أيضا في تعاملها الانتقائي مع الثورات العربية بحسب ما يخدم مصالحها، فقد أيدت الثورتين المصرية والتونسية، لكنها اعتبرت الثورات السورية والعراقية واللبنانية «مؤامرات وأعمال شغب». ثانيا: الخشية من فقدان وكلائها في كلا البلدين، الذين منحتهم السلطة من خلال التمويل والأسلحة، وساعدتهم على التسلل إلى مؤسسات الدولة، لحماية وخدمة مصالحها، وهو ما يعد تطبيقا لأحد أفكار مدرسة التبعية التي تنص على أن الدول الاستعمارية -وإن كنا لا نتحدث عن استعمار بالشكل التقليدي- تعمل على إنشاء علاقات مع النخب في الدول المستعمرة، وإغرائهم بالمناصب والمال والمكانة الاجتماعية حتى تيسر لنفسها عملية نهب موارد هذه الدول، وهو ما حدث فعليا في هاتين الحالتين. وفي حالة فقدانها وكلاءها في الدولتين سيتم تطويق إيران اقتصاديا وحرمانها من أي متنفس، وخاصة أنها تعتمد على اقتصادهما في فترة الحصار. ثالثا: الخشية من أن يرتد صدى هذه الاحتجاجات في الداخل الإيراني نفسه، وبخاصة إذا ما حققت نتائج إيجابية وزاد تأثيرها في المستقبل القريب. وشهدت إيران خلال عامي 2017-2018 ومطلع 2019 احتجاجات واسعة، نتيجة الظروف الاقتصادية وانهيار الريال، والبطالة والإحباط من الفساد الحكومي، وسرعان ما طالت الاحتجاجات المرشد نفسه والسلطة الدينية، في سيناريو يشبه الاحتجاجات في العراق ولبنان، عزز من ذلك أن هناك اشتراكا في المظالم بين العراقيين واللبنانيين والإيرانيين ضد المؤسسات الحاكمة في بلادهم. وفي حالة نجاح ثورتي العراق ولبنان ستخسر إيران العديد من الاستثمارات المالية والسياسية والعسكرية، ما قد يؤدي إلى اشتعال احتجاجات في طهران نفسها ردا على تردي الأحوال الاقتصادية. وحتى الآن اتبعت إيران عدة طرق لتنهي هذه الثورات، أولها محاولة تصويرها بـ«صورة سلبية»، وأنها ربما تقود إلى حرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس؛ لكن يبدو أنها غافلة على أن الخطابات الرنانة لم تعد تؤثر في مطالب الشعوب وتحركاتهم بعد أن تعلموا أنها مجرد ألعاب سياسية أضحت واضحة للجميع. وثانيها التدخل العنيف غير المباشر، وهو ما اتبعته في كلا البلدين من خلال المليشيات الشيعية الموالية لها. يقول «جوزيف باهود» من مركز «كارنيجي»: «تنظر إيران إلى الاحتجاجات باعتبارها تهديدا وجوديا؛ لكن لديهم الكثير من الأوراق للعبها قبل اللجوء إلى العنف لسحقها». وغالبا ما تلجأ لذلك في محاولة لإنهاء هذه الثورات لصالحها، وخشيتها من إزدياد الغضب الشعبي عليها، وخسارة تأييد الدول الأوروبية التي لم تنسحب من «الاتفاق النووي». وخلال الموجة الأولى من الاحتجاجات في العراق شكلت خلية أزمة لقمع المتظاهرين بإشراف قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، إلا أنّ إرهاب المواطنين لم يحل دون تفجر موجة ثانية، حيث اتهم المتظاهرون إيران ووكلاءها بالوقوف وراء حملة عنيفة ضدهم في مدينة كربلاء قُتل فيها 14 متظاهرا وجُرح أكثر من 100. وفي لبنان، اتضحت هذه الاستراتيجية عندما نفّذ مؤيدون لحزب الله وللتيار الوطني الحرّ يوم 29 أكتوبر تظاهرات مضادة في مناطق مختلفة مثل ضاحية بيروت الجنوبية ومدينتي النبطية وصور جنوبا، ما تسبب في حدوث اشتباكات مع المتظاهرين أطلقت خلالها مليشياته النار عليهم، وقاموا بتحطيم الكراسي وتفكيك خيامهم؛ الأمر الذي علق عليه «كليمنت تيرمه»، من معهد «ساينسس بو» بباريس، بقوله: إن «تدخل إيران قد غذى غضب المتظاهرين، وخاصة في العراق، والذين يكرهون حقيقة أن إيران يمكنها التدخل في شؤونهم». غير أنه مع ازدياد هذه المظاهرات واتساع نطاقها تبقى هناك استراتيجية ثالثة من المحتمل أن تتبعها إيران مستقبلا، هي التدخل المباشر مع ما يحمله ذلك من عواقب عليها. يوضح «نادر هاشمي» ذلك في صحيفة «نيويورك تايمز»، بقوله: «لن يسمح خامنئي الذي استثمر في المنطقة ماليا وعسكريا للمتظاهرين بإضعاف الهيمنة الإيرانية في المنطقة مهما كان الثمن». على العموم، تمثل ثورتا العراق ولبنان تحديات عديدة لإيران من حيث فقدان نفوذها داخل البلدين وزيادة تطويقها اقتصاديا وخسارة سلسلة من استثماراتها، غير أن الأهم هو كشفها مدى هشاشة النظام الإيراني أمام العالم.. لكن يبقى السؤال الأهم هو: هل ستسمح إيران بانتصار هذه الاحتجاجات وتتخلى بسهولة عن سيطرتها على البلدين، أم ستعمل على حماية مصالحها والحفاظ على شعبيتها داخلهما، أو على أقل تقدير حفظ هياكل أحزابها القانونية التي ترسخ لوجود حكومات ذات انتماءات طائفية يكونون بمثابة وكلاء لها؟

مشاركة :