رواية دونكيشوتية لنجوى بركات

  • 11/9/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لا يمكن لقارئ رواية "مستر نون" لنجوى بركات أن يخرج سالماً من نصها، إنها ملحمة دينكوشتية معاصرة، تفرد واقعنا المعيش أمامنا تحت أشعة ساطعة، كل تفصيل فيها سنراه بمكبّر غير عادي، كل سلوك، كل حركة، كل النتائج الخاسرة لحياة بنيت على ارتباك قديم، ستتوضح بالقدر المؤلم الذي يقتلع قلوبنا من أمكنتها، ليس لأن الأحداث غريبة ومشابهة لنا في آن، بل لأن هذه اللغة السردية التي خاطت بها بركات نصها، ستخيط بها أيضاً أنفاسنا، كون الحِيَل الحكائية لديها تنفتح على مغارة فرعونية مليئة بالأسرار، سر يجرُّ سرّاً، شهقة تجرُّ أخرى، مستمتعين بمذاق اللغة الجميلة التي قدمتها لنا الكاتبة كما لو أنّها طبق لذيذ نتناوله أمام استعراض تأنقت فيه العارضات حتى سرقن ماء عيوننا. مئتان وخمس وخمسون صفحة، تشمل قصّة الطفل الذي لم ينسجم مع زوجة أبيه ثريا، وأخيه سائد، قبل حتى أن يرى والده يقفز من نافذة البيت منتحراً، وقبل أن يفقد القدرة على فرملة حياته وتوجيه مقودها بعيداً عن تلك الطريق التائهة في عتمة نفسه.. كما تشمل قصة الطفل نفسه بعد أن تقدّمت به السنون، وقطعت به عمراً من الحروب والخسارات والانتكاسات النفسية، أبشعها تلك التي رأى فيها حبيبته النيبالية شايغا تُرْمى من شرفة الطابق الرّابع لتقتل ولادته الثانية، لنكتشف أننا وقعنا في شركٍ سردي متقن، بعد كل تلك المتاهة العصيبة، والمواقف المضحكة المبكية، نصطدم بنهاية غير متوقعة. وتلك كانت أجمل حيلة على الإطلاق في بناء روائي مذهل. تمعن الكاتبة النظر في بطلها من كل الجوانب، فتمنحه صفات دونكيشوتية فريدة وفضاء لن نفهم أبداً أنّه مصحّة نفسية في البداية، في مكان ما في قاع المدينة، متأرجحاً بين "برج حمود" و"النبعة" وشارع أرمينيا الذي يكون مدخلاً لعالمه المخملي القديم في "شارع عبدالوهاب الإنجليزي" فنمضي في اعتقادنا أنه فندق رخيص تسكنه شخصيات كاريكاتورية لا تختلف عن مستر نون في شيء إلا في نوعية جنونها وفي قدرتها على الاتزان عند الحاجة، وكأن ما يحدث لها ليس حياة كاملة بل مقتطفات قليلة منها، تقاطعت بالصدفة المحضة مع إيقاع الحرب التي شوّهت كل شيء، المدينة، والشوارع، وقلوب الناس، وأدمغتهم، وطيبتهم، ولامست إنسانيتهم حتى تحولوا إلى وحوش. لا شك أن "مستر نون" رواية انتظرناها طويلاً، لنعيد من خلالها قراءة خبايا أنفسنا، وفق مفاهيم صحيحة للحياة والموت والحب والخوف، وكل دعامات العلاقات مع ذواتنا ومع الآخر، والتي ربما على رأسها الكتابة، الدواء السحري الذي يداوي نفوساً طالها الخراب.

مشاركة :