حديث التجديد وتأريخ الإسلام - د. إبراهيم المطرودي

  • 5/13/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

ماذا نصنع حين نشك في حديث التجديد "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يُجدد لها دينها"، وما نحن فاعلون حين نرى أمام قبوله عقبات وعقبات؟ أنُلغي فكرة التجديد، ونذر الحديث فيها، ونعدّ سكوت المصطفى _ عليه الصلاة والسلام _ عنها حجة لنا في تركها، وبيّنة في إدبارنا عنها؟ أنذهب حين يثبت لنا بطلان نسبته إلى حُسْبان هذه القضية غير جديرة بالرعاية، ونخال من ينشغل بها بعيداً عن التوفيق، ونغلق ملف الحديث عن التجديد الديني، ونرى في عرضه، ودراسته، مخالفة دينية صريحة؟ تلك هي الغاية التي ستصير إليها السلفيات جملة، والنهاية التي لا يجد الحرفيّون من المسلمين أنفسهم في غيرها؛ إذ لا يستطيع أحد منهم _ كما هو مقرر نظرياً، ومتفق عليهم بينهم _ أن يُفتي في أمر، جلّ أو صغر، دون أن يستند إلى نص، ويعتمد في فتواه عليه؛ فالنص يُخوّله أن يفتي، ويسمح له بالقول، ودون وجوده حين طرحت فكرة التجديد الديني، وأنا في الحديث عنها مسبوق بكثيرين قبلي، كنت مؤمناً بها، وعاقداً قلبي على الدفاع عنها، وهو إيمان يُمليه عليّ قصور الإنسان في إدراك النص، وعجزه عن الإحاطة بمعناه.. سيرى من حيث النظرية؛ أنه أتى الفتوى من غير بابها، وسلك إليها غير سبيلها، هذا والفتوى مطلوبة في مسائل جزئية، وقضايا فرعية، فحين ننتقل إلى قضية دينية جوهرية (التجديد الديني مثلاً) سيكون الهرب منها أشد، والبعد عن القول فيها، دون نص، أعظم، وهكذا سيصبح الجواب عن الأسئلة المطروحة أول؛ أن المسلمين سيرفضون هذه القضية، ويعدّون القول فيها تعديّاً على الدين، واجتراء عليه، وسينظرون إلى دعاتها، وحماتها، والمنادين بها، نظرة ريبة، ويتوجسون منهم خيفة، فيصبح هؤلاء الدعاة خارجين عن المألوف، وضاربين في بيداء الضلالة، ومنابذين للأمة في إحدى قضاياها الكبرى، ومباني دينها العظمى. وحين طرحت فكرة التجديد الديني، وأنا في الحديث عنها مسبوق بكثيرين قبلي، كنت مؤمناً بها، وعاقداً قلبي على الدفاع عنها، وهو إيمان يُمليه عليّ قصور الإنسان في إدراك النص، وعجزه عن الإحاطة بمعناه، وعقيدة يزرعها في وجداني، ويسهر على نماء شجرتها فيه؛ أنّ المسلم المتأخر، والمؤمن الآتي مسقبلاً، له من الحق في النظر والتأمل والتفكير ما كان لأسلافه، الأولين واللاحقين لهم، وأنّه، مهما طوّحت به الأيام، وتقلّبت به الأحوال؛ جدير أن ينهض بأعباء هذا التجديد، وقمين أن يؤدى واجب الدين عليه؛ فكل عصر، مثل كل فرد، لا يُكلّف من الأمر إلا ما يستطيعه، ويرى في نفسه قوة عليه، والعصور مثل الأفراد لا تُحاكم بالآتين بعدها، ولا يُجعل الخوف على الناس إثرها سبباً في صدّ أهلها، ومنعهم من دورهم؛ فكل أهل عصر مسؤولون عن أنفسهم، ومنتظر منهم أن يقوموا بدورهم، ويختطّوا سبيلهم، وليس لهم على من بعدهم إلا حسن الظن بهم، وسلامة الصدور تجاههم، ولعل مسؤولية أهل العصور عن عصورهم وحدها مقصودة بقول الله (تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تُسألون عما كانوا يعملون). لم يكن ضعف حديث التجديد عندي، والارتياب من لفظه حين النظر فيه، والشك في صدوره عن رسول الله _ صلى الله عليه وسلّم _ حاجزي عن الوقوف مع التجديد، ومانعي من نصرة أهله، والمضي في هذا الدرب معهم؛ فهو موقف تُمليه عليّ أولاً فكرة المساواة بين المسلمين، ويُجبرني على القول به، والعض عليه، مسؤولية كل عصر عن نفسه؛ فمن يؤمن مثلي بحرية الأفراد، ويراهم مسؤولين عن أنفسهم، ومُبتلين بها، فهو سائر، لا محالة، إلى هذا القول في العصور وأهلها، بل هي عنده أحرى بهذا القول، وأجدر أن تُقرن به. أقول هذا؛ لأنّ لديّ شكوكاً في هذا الحديث، وإن صححه بعضهم، تجعلني أفصل فصلاً تاماً، بين الحديث صحته وضعفه، وبين قضية التجديد الديني والمطالبة بها؛ فضعف الحديث، وهو ما يبدو لي، لا يضر هذه القضية، ولا يمنع من القول بها، وقد قدّمت علة المطالبة بالتجديد، وها أنا أُورد لكم أسباب شكي في الحديث، وريبتي منه حتى لا يظن أحد أن كتابتي عن التجديد الديني تتكئ عليه وحده، وتتجرد من الحجة دونه. من مثيرات الريبة في هذا الحديث أنه يعارض القرآن الكريم معارضة، تبدو لي صريحة وواضحة؛ فالله تعالى يقول في كتابه الكريم عن رسولنا _ عليه الصلاة والسلام _: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين، وكان الله بكل شيء عليما)، ويخالف صحيح الحديث أيضاً، الذي اتفقت على روايته معظم دواوين السنة، وهو قوله _ عليه الصلاة والسلام _ لعلي:" ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وجه المعارضة للآية الكريمة، وهذا الحديث المشهور المعروف؛ أن المجدد القرني يقوم بوظيفة النبي، ويُعيد الناس مرة أخرى إلى الدين، وهذا مبني على اختيار بعضهم من أن الرسولَ "مَنْ أُوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله"، وهكذا سيكون المجدد القرني مماثلاً في وظيفته للأنبياء في الشرائع السالفة، وهو الأمر الذي يدل القرآن الكريم على خلافه، ويدفع الحديث إلى الشك فيه؛ لأن العبرة حينئذ بالوظيفة التي يتولّى القيام بها النبي والمجدد، وليس بالاسم الذي يطلق عليهما، ولعل في كلمة "يبعث" ما يؤيد هذا القول، ويقويه. ويزداد الشك في الحديث حين يُنظر إليه من خلال تأريخ الإسلام، ومراحله المتعاقبة، التي تبدأ بالصحابة، وتنتهي بعصرنا هذه الأيام؛ فالناس سينتظرون، بناء على أهمية هذا الحديث ومحوريته في التفكير، أن يُحدد للمئة الأولى التي تنتهي بمئة وعشرة مجدد قرني، وكذا الحال مع المئة الثانية والثالثة، وهو أمر تُفسده الفكرة الذائعة في المذهبيات من أنّ هذه القرون الأولى هي قرون الاقتداء؛ خاصة رأس المئة الأولى التي كان فيها الصحابة، والتابعون لهم؛ فنحن حين نقر ببعثة مجدد على رأس المئة الأولى كأننا نقول للناس: إن تلك الحقبة لم تكن كما ظننتم. ويبين ضعف الحديث، ويقوى الشك فيه؛ حين نستحضر في سياق قراءته أن المسلمين بعد الرسول _ عليه الصلاة والسلام _ اختلفوا على مذاهب عديدة، وطرائق كثيرة، وصار لكل منهم رأس، يرجعون إليه، ويحتمون بقوله؛ مما يجعل هذا الحديث يفقد معناه، ويلتغي أثره؛ بل يصبح محل نزاع ومكان اختلاف، ويخرج به الناس من غرضه الذي جاء من أجله، وهدفه الذي رُسم له، يُساعدهم على ذلك عموم لفظه، وضبابية كلماته؛ مما جعله قميصاً، يستطيع كل أحد أن يُلبسه شيخه، ويُعينه على لبوسه. وحين نتذكر حديث افتراق الأمة، ونحن نقرأ هذا الحديث؛ يحضر على بالنا المعنى السلبي لهذا المتن؛ إذ ستصبح كل تلك الطوائف التي قيل في الحديث: إنها في النار، خارجة عن هذا المعنى؛ لأن الحكم عليها بالنار، كما هو رأي عدد غير يسير، مانع من أن يكون المجدد فيها، وإن كان فيها مجدد، وقبل الحرفيون ذلك؛ فلم يعد لإطلاق هذا الحكم عليها، وإلزامها بما كان عليه متقدموها معنى؛ وسينتهي بنا الحال في تفسير هذا الحديث إلى جعله قيمصاً خاصاً بنا، أقصد كل طائفة من طوائف المسلمين، وحينئذ يتحوّل الحديث من كونه باعثاً من بواعث البحث عن المجدد لدى الطوائف الأخرى إلى سبب من أسباب تقليد الجماعة، ومحاكاة رموزها، واتباع سبيلها، ومن ثم تقديس منظومتها؛ إذ هي الْحَرِيّة دون غيرها بهبة المجدد، وهي المؤهّلة دون أخواتها، الهالكات في النار، لبعثته فيها، وبهذا يُصبح الحديث قلقاً إسلامياً آخر، وباعثاً من بواعث الشقة والاختلاف؛ لكن على ضفاف المذهبيات، وعنتريات أصحابها، يبدو كأنه نبوءة صادقة، ومتن لا يعترضه إلا شبهات باهتة.

مشاركة :