ثمة لون من الكتابة جديد في تقنياته، سلس في عباراته، بسيط في أفكاره، لا يستعرض عضلاته اللغوية، ولا يُقعر ألفاظه، ولا يستسلم لقيود مدارس النقد، ولا يخضع لنظرياتها. لون مُشاكس، متمرد، مندفع، مُختلف، يُعبر عن جيل التطور التكنولوجي، وثورة الاتصالات، ورهانات الألفية الثالثة، ينمو رويدا ويكسب كل يوم أرضا، ويؤكد أنه لا ثبات في ثيمات الأدب، ولا تجمّد في فنون الكتابة. ربما كان الشاهد على ذلك اللون ما حدث في القاهرة في 2 أبريل سنة 2018. ففي ذلك اليوم غيب الموت الكاتب المصري أحمد خالد توفيق، لتفاجأ وسائل الإعلام المصرية والعربية بعشرات الآلاف من الشباب يسيرون في جنازته مودعين. الجيل الجسر لم يكن أحمد خالد توفيق محسوبا على الشلل الأدبية، وكان الكثير من النقاد ينظرون إليه باعتباره طبيبا يهوى الكتابة والأدب، لكنه لا يُمثل استثناء أو يطل كنجم مبهر. من هُنا يمكن فهم سمات الكتابة الشبابية التي قد تصطدم مع موروثات الذائقة التقليدية، وتختلف مع مدارس النقد، لكنها تحوز محبة واهتمام وثقة جمهور الشباب الذي يمثل الشريحة الأكبر من شرائح القراء. الكاتب المصري عُمر طاهر نموذج لافت لتلك الكتابة بتنوع فنونه الكتابية بين الشعر والسينما والأدب والمقال، وتجدد أفكاره واتساقها مع ثورة التكنولوجيا وما أفرزته من صياغات جمالية وتقنيات. أخطر ما يواجه الأدب والكتابة تنامي الرقابة الذاتية تأثرا بالرقابة المجتمعية التي زادت بصورة لا مثيل لها يؤكد عمر طاهر في حديثه مع “العرب” أن عصر التكنولوجيا أثر في جيل الألفية بتطوراته المتسارعة التي كانت خيالا محضا قبل عشرين عاما، ما جعل هذا الجيل متعطشا لأفكار غير مجربة في كل فن إبداعي وكل لون من ألوان الكتابة. يقول إنه رغم إيمانه بأن الكتابة لا تعني سوى الكتابة، إلا أن هناك اختلافا بين متلق وآخر، فأبناء جيله الذي يسميه “الجيل الجسر بين التقليدية وثورة المعرفة اختبروا الحيرة والقلق والتساؤلات والتنبؤات المتسارعة بشأن المستقبل، وشهدوا نقلة تاريخية وإنسانية عظيمة جدا في التاريخ الإنساني، وبلا شك فإن لهؤلاء انفعالات ومشاعر مختلفة عن سابقيهم”. ويؤكد أنه ابن جيله الذي لحق بالتليفون المنزلي عندما كان يمكن أن يقتصر على شقة واحدة في إحدى البنايات تخدم جميع السكان، وشهد التحول إلى الهاتف المحمول بعد ذلك. وهو ابن الجيل الذي كان ينتظر يوما واحدا في الأسبوع لمشاهدة فيلم أجنبي جديد تعرضه القنوات المحلية، ثُم صُدم بعد ذلك بفضائيات متنوعة بكافة اللغات تنقل له أفلام العالم كله إلى غرفة نومه. ويضيف “هذا الجيل تلقى صدمات وعاش تحولات جعلته مميزا عن غيره في قراءاته وإبداعاته، وهو ما قد لا يعجب جيلا سابقا”. كان لا بد من أفكار جديدة للكتابة في مختلف المناحي سواء الشعر، الأدب الساخر، الرواية. أفكار تحرر العقل من صدماته وتداعب مشاعره الإنسانية وتعيد له البراءة المختنقة تحت وطأة الماديات المتسقة مع فكرة ثورة التكنولوجيا. ويرى طاهر أن توصيف البعض له باعتباره من الكتاب الشباب لا يخلو من سوء نية رغم إيمانه بأن الشباب صناع النجوم، وهم الجمهور الأعظم في الأدب والفن، موضحا أن هناك مصطلحا معروفا لدى كبار الكتاب في هذا الشأن هو “المديح المسموم”، إذ يحاول البعض قصر كاتب ما في دائرة بعينها سعيا إلى التهوين من نجاح محقق. وطاهر من مواليد محافظة سوهاج، جنوب مصر في منتصف السبعينات، وبدأ حياته بالعمل في الصحافة قبل أن يكتب قصصا قصيرة بعناوين غير تقليدية مثل “أثر النبي”، “الكلاب لا تأكل الشيكولاتة”، كما أصدر دواوين شعرية متنوعة بالعامية المصرية، منها “قهوة وشيكولاتة” و”مشوار لحد الحيطة”. فضلا عن كتب ساخرة مثل “رصف مصر” و”شكلها باظت”، وكتاب عن نماذج إنسانية فريدة في تاريخ مصر بعنوان “صنايعية مصر”، ومؤخرا صدرت له رواية بعنوان “كحل وحبهان”. وكتب سيناريوهات عدة أفلام كوميدية أشهرها “طير إنت” سنة 2009 بطولة أحمد مكي، دنيا سميرغانم، وإخراج أحمد الجندي، وفيلم “كابتن مصر” سنة 2015 بطولة محمد عادل إمام، علي ربيع، وبيومي فؤاد، ومن إخراج معتز التوني. تعدد لا تشتت يقول عمر طاهر في حواره مع “العرب” إن التنقل من لون كتابي وفن إبداعي إلى آخر ليس عيبا، ولا هو تجريب شخصي، أو رغبة في فعل كل شيء، لكنه تعدد مشروع لأنماط وأشكال إبداعية تتوافق مع فكرة بعينها، والكاتب شخص يعمل على المحتوى والفكرة ولا يعنيه الشكل الإبداعي في البداية، والأهم أن تصل فكرتك بقوة وتؤثر في المتلقي تأثيرا حقيقيا. ويشير إلى أن ثمة أفكارا لا تصح أن تقال إلا من خلال مقال لا تزيد كلماته عن 500 كلمة، وهناك أفكار أخرى تحتاج إلى فيلم أو رواية، وهناك فكرة يمكن اختصارها في بضعة سطور من الشعر، وجرب كل لون، لكنه لم يكن مشتتا، وإنما متعدد الوسائط والأشكال الناقلة لأفكاره، فالمهم لديه أن يحدث أثرا. كان ذلك سببا في أن يقدم عمر طاهر نفسه دائما للناس بمسمى الكاتب، لا الشاعر ولا الروائي ولا السيناريست ولا الصحافي، رافضا تصنيفه ككاتب ساخر أو كاتب سياسي أو شبابي، فالتصنيف خصمه اللدود، ما دفعه ليقول إنه “كاتب وذلك مُسمى يزيده فخرا”، فالكتابة عنده “فعل تحرر، تطور، تأمل، تحليق مع الناس في فضاءاتهم، وملامسة لهمومهم وحيواتهم”. إن لحظة ميلاد الفكرة أصعب لحظات الكتابة في اعتقاده. ربما تولد بالتأمل، والاطلاع والقراءة، وربما بالتفاعل مع الجمهور، والإلهام قد يزور الكاتب في أي وقت، لكن عندما يأتي لا بد أن يجد الكاتب متحفزا، مشمرا، مستعدا. أهم ما يستهدفه طاهر أن تلامس أفكاره مشاعر الناس، تطبيقا لما قاله الشاعر الراحل نزار قباني في أول دواوينه “إذا قيل عني أُحسُ كفاني ولا أطلب الشاعر الجيدا/ شعرتُ بشيء فكونت شيئا بعفوية دون أن أقصدا/ فيا شاعري يا رفيق الطريق.. أنا الشفتان وأنت الصدى”. لون جديد يقول عمر طاهر لـ”العرب” إن هذا ما دفعه ليكتب روايته الأحدث “كحل وحبهان”، ولاقت اهتماما في الأوساط الشبابية كلون جديد من الروايات، حيث تسعى إلى ترجمة حاسة التذوق لدى الإنسان إلى مشاعر إنسانية. كل أكلة يحبها إنسان ما ترتبط في ذاكرته بأحداث سعيدة أو حزينة تمثل ذكرى في حياته لأشخاص أحبهم وعايشهم في طفولته، لذا فإنه عندما يتذوق تلك الأكلة يلامس جانبا من حياته ويشعر بالحنين إليه، وهناك مَن يتصور أن طعام الأم أفضل طعام، لكن في حقيقة الأمر فإن الإنسان يحن إلى زمن صغره أكثر. وحول قراءاته المتعددة، قال إنه مُطلع على مختلف الإبداعات العربية والمترجمة لكبار الكتاب، ومهتم بمتابعة روايات جائزة البوكر، كما يطلع على إبداعات جيله، متتبعا خطى زملاء له من الكتاب والروائيين، غير أنه في كثير من الأحيان يقرأ بشكل عشوائي، حيث يشتري كتبا لأسماء غير معروفة ويقرأها على سبيل التجريب. بشكل عام، يعشق الواقعية السحرية التي يعبر عنها أدب دول أميركا اللاتينية، ويعتبرها أكبر ما أثّر في جيل العصر التكنولوجي في العالم العربي، فكتابات ماركيز، باراغاس يوسا، باولو كويلهو، إيزابيل الليندي وغيرهم، ترجمت إلى العربية خلال التسعينات وساهمت في تشكيل وعي وذائقة مثقفي جيل الألفية الثالثة، ومثلت تطورا في تصورات الشباب بشأن الأدب. ويرى أن أخطر ما يواجه الأدب والكتابة تنامي الرقابة الذاتية تأثرا بالرقابة المجتمعية التي زادت بصورة لا مثيل لها، وتراجع سقف حرية الكاتب يدفعه إلى اللجوء للرمز أو التورية وهو ما لا يناسب أجيال ما بعد الحداثة التي جعلتها وسائل التكنولوجيا خارج أطر وقيود الرقابة.
مشاركة :