المشي الجبلي (الهايكنج) رياضة ممتعة، وتتطلب لياقة بدنية جيدة. كما أن لها الكثير من الأبعاد التاريخية والتراثية والاجتماعية، وهي رياضة مليئة بالتأمل، تأمل يستوحي من البيئة والطبيعة ومن غرابة المكان، وظروف الطريق، وتحدي الصعود، وبعضاً من المغامرة؛ لذا فإن التأمل فيها أعمق، والمشاعر التي تنتاب الإنسان فيها مشاعر جديدة تتأثر بالمكان وظروفه؛ مما يجعلها رياضة فريدة وتبقى ذكرياتها زمناً طويلاً، وهي رياضة تجعل الإنسان محباً للطبيعة، وصديقاً للبيئة، فمن أسس ممارستها عدم رمي النفايات، أو الإضرار بالبيئة، وشعارها في ذلك لا تترك أثراً. الهايكنج في الدول المتقدمة رياضة متطورة جداً. وهناك مسارات قديمة وأخرى مستحدثة للسياح تزخر بروادها من السياح، ولها خرائطها وأدلاؤها، بل واستراحات وفنادق خاصة لممارسي هذه الرياضة، حيث يصل ممارسو هذه الرياضة إلى هذه الفنادق مشياً على الأقدام ليستريحوا فيها ليلاً قبل أن يواصلوا سيرهم. ففي بلجيكا، يسمى أحد هذه الفنادق Back Pack Hotel (فندق حقيبة الظهر). ويوجد في بريطانيا وكندا مسارات متواصلة لممارسي هذه الرياضة تقطع الدولة من شرقها إلى غربها. وفي الولايات المتحدة طريق جبلي يمتد من جبال سبرينجر في ولاية جورجيا إلى جبال كاتا هدين في ولاية مينيسمى سلسلة آبالا (Appalachain). ويبلغ طوله حوالي 3500 كلم، وتنظم رحلات للسير فيه جزئياً أو كلياً لمن أراد أن يقطعه في مدة تتراوح بين خمسة وسبعة أشهر. ولا بد من الإشارة إلى أن رياضة السير الجبلي (الهايكنج) لها احتياجات أساسية, من أهمها توفر مجموعة مشاركين ولا ينصح أحد بمزاولتها وحيداً، وتحتاج خريطة أو دليلاً عارفاً بالطريق. كما أن عنصر الأمان واتباع تعليمات السلامة والبقاء مع المجموعة مهم جداً, فبعض المسارات تمر على مناطق نائية. كما يجب توفير كميات كافية من الماء والطعام حسب الحاجة، مع ضرورة التخطيط الجيد للوصول للمكان المناسب قبل حلول الظلام أو نفاد الماء،،، وغيرها. والهايكنج رياضة تجعلنا نتأمل الحاضر والماضي، وتعرفنا على الجهد الذي كان الأجداد يبذلونه، وكيف تحملوا ظروف الحياة والسفر. كما أن السير في هذه الممرات يعطي صورة عن صحتهم ولياقتهم التي تمكنهم من تكرار المشي، والصعود في الممرات المرتفعة، فقد كانت هذه طريقتهم الوحيدة للسفر والتنقل. كثيراً ما تصمم رحلات السير الجبلي (الهايكنج) بحيث تكون في نهايتها جائزة مثل الوصول إلى معلم فريد في منطقة نائية، أو نبع ماء، أو قمة عالية، أو مطل جميل، أو هواء نقي؛ وهو ما يجعل للمغامرة طعماً، ويضيف حافزاً لإكمال الطريق. وقد مارست تلك الرياضة مؤخراً مع شباب من العائلة في أحد جبال منطقة طاشا بغرب المدينة المنورة قرب ينبع النخل، واستمر المشي الجبلي والصعود والنزول حوالي ساعتين. ولم أستطع الوصول إلى نهاية محددة بل كانت جبالاً عالية فيها قمم تتلوها قمم. وقد خطرت ببالي تأملات متعددة في تلك الرحلة، وهذا شأن هذه الرياضة الفريدة الثرية بالتأملات. من التأملات التي خطرت ببالي في تلك الرحلة الصعبة أن الذين يصلون إلى مراحل متقدمة في الصعود نحو القمم، غالباً ما يدركون بشكل واقعي ما أمامهم من قمم متعددة ومتفاوتة في الارتفاع. وكذلك في الحياة، يشعر المنجزون كثيراً بصعوبة ما أمامهم وأنهم لم يقطعوا كل الأشواط، فيشعرون بالتواضع. ومن التأملات أن صاعدي الجبل يعودون بالنظر من حين لآخر إلى السطح الذي تركوه وراءهم فيرونه قريباً، وكأنهم لم يقطعوا مسافة، ولم يصعدوا قمماً. وكذلك المنجزون المتواضعون، ينظرون إلى إنجازاتهم بشيء من التواضع، وكأنهم لم يصنعوا شيئاً منذ تركوا السفح، بينما ينظر إليهم من في السفح على أنهم وصلوا إلى أعالي القمم. وفي السير الجبلي، كثيراً ما يتصور الذين ينظرون من السفح إلى أن من في الأعلى يخاطرون بأنفسهم ويتعرضون للسقوط. أما المشاركون في صعود الجبال فيعرفون مواطئ القدم، ويقدرون خطواتهم بشكل لا يدعو إلى القلق. وهكذا الحياة، فالمغامرون مشغولون بما بين أيديهم، ولا يأبهون بنظرات من في السفح. وفي الجبال التي صعدناها، كان أمامنا أكثر من قمة، وكلما صعدنا قمة اتضح أن أمامنا قمة أخرى بعدها، وإذا صعدناها اتضحت لنا قمة أخرى أعلى وهكذا حياة محبي القمم في الدنيا وفي الآخرة لا يتوقفون عند قمة واحدة. في تلك المنطقة الجبلية، تعددت الجبال والمسارات لدرجة أن يراودك شعور بأنك تصل إلى أماكن لم تطأها قدم بشر من قبل، وربما يكون هذا صحيحاً. وهذا شأن الحياة، وهناك مجال دائماً لأن يأتي الإنسان بالجديد وغير المسبوق. الشرط الوحيد قد يكون الجرأة والإبداع وحب التغيير، والذهاب إلى ما قد يراه الآخرون المجهول. في رحلتنا تلك، بدأ بعض المشاركين فتقدموا نحو القمم القريبة بسرعة وحماس. أما المتأخرون المصرون على الاستمرار فلم يكونوا يتوقفون، لكنهم لا يسرعون بحماس، فتجدهم يصلون بالإصرار لا بالحماس. وهكذا حال الذين يبدؤون مشروعاتهم ومبادراتهم بحماس ثم يتوقفون ويتباطؤون، ويسبقهم الآخرون إلى قمم أعلى. وهكذا الحياة فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وفي السير الجبلي تحتاج إلى الترجيح بين الاختيارات في الطريق نحو القمة لتختار أيسر الطرق. ولا أيسر من أن تتبع الطريق الذي تسلكه الماء. فمسار الماء في الجبل هو أكثر مواطن الحياة فيه، وكذلك في الحياة فقد جعل الله من الماء كل شيء حي، والطريق الأمثل هو الذي يعتمد على الحياة، والروح، والإنسان، فالاستثمار في الإنسان وهذا ما يوصل البشر إلى القمم. ومن المعــروف أن الهايكنــج يمـارس في مناطـق نائيــة، وعـادةً بين نقطتين محسوبتين. في الأول مستقر ومنطلق، وفي الثانيــة هدف ومكــان آمـن. وبينهمــا مفــازة صعبــة، ومسـافة لا بد من قطعهـا في وقت محــدد. والتقاعـس يعـرض المشــاركين للخطــر، فأحيانــاً قد يهدد الخطــر حياتهم لو حـل الظــلام وانتهــى الوقـت المتاح. وكذلك الحياة الدنيا، هي منطلق ومفازة. لا بد من الوصول إلى الآخرة والجنة. وسوف يؤدي التقاعس أو الانحراف عن الطريق إلى التهلكة. الهايكنج (السير الجبلي) رياضة فريدة مرتبطة بالمشي وتأملاته، كما أنها مليئة بحب الطبيعة والتاريخ والتراث. ينبغي أن تنتشر هذه الرياضة، خصوصاً بين الشباب؛ لما فيها من دروس وتأملات يحتاجها الشباب ومغامرات تروق لهم. والله الموفق،، د. صالح بن سعد الأنصاري @SalihAlansari المؤسس والمدير العام التنفيذي لمركز تعزيز الصحة @SaudiHPC
مشاركة :