"نوّارات" تُشعل الذاكرة لتضيء شموعا مستقبلية

  • 11/16/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

جرت العادة أن يستعين الصحافيون والنُقاد بأقوال مأثورة لتوضيح كتاباتهم أو لمدّها بمصداقية ما، لاسيما حينما تطرح أفكار غير تقليدية، لكن ما هو غير معتاد هو أن يطرح الكاتب فكرة ما داعما إياها بكتابات أخرى هي أيضا له. هذا ما حدث لي تماما عند كتابتي لهذا المقال. اخترت أن أستعين من رواية “نوّارة” التي أصدرتها منذ ما يقل عن سنة بمقطع شديد الرمزية جاء تحت عنوان “الشمعة”، لأضع “نوّارة” بطلة الحكاية في بيئتها الأصلية/الواقعية، أي في صلب حراك عاطفي وشعري احتوته وسط بيروت منذ عدة ليال وأضاءت فيه النساء من مختلف الأعمار والوافدات من كل المناطق اللبنانية شموعا لوأد عتمة الليل، ولإشعال الذاكرة النائمة، ولدعم “أمومي” شعائري المنحى، استمرارية الثورة اللبنانية بكل شعاراتها الموحدة للشعب اللبناني. ثورة معنية أيضا بشعارات الشعوب العربية المجاورة برجائها وحلم يقظتها من سبات أظلم حاضرها ولا يزال يهدّد مستقبل أولادها. يسرد النص في رواية “نوَارة” أنه حيث كان الإناء الذي حصد دموع نوّارة اشتعلت “شمعة لن تخمد شعلتها رفيعة كخط رند.. في شرود رند الناظر إلى نوّارة سعف عاتية، وتمر رطيب تشتهيه قناطر القصر الصيفية، تلك المُطلة على حدائق الذاكرة. الشمعة وحول شعلتها فلك مستنير رفيع كخط يدك يتوهج ضوءه حين يرانا ويزداد بريقه صعودا حتى السقف. ما أن نراه حتى يتوسّع وينحرف مودّعا محوره”. ضوء الشموع انتشر في سائر أرجاء وطن عرف شتى أنواع التشظيات الاجتماعية والسياسية، لينير درب أمل شعب كامل كذلك هو الحال على أرض الواقع اللبناني الخارج من حاضر بعيد عن ممارسة حصاد الدموع وفكرة ممارسة العتمة، اشتعلت الشموع، ولن تخمد شعلتها الرفيعة طالما رنا إليها مُشعلوها، جاعلين منها عرّابة بناء أكثر قناطر القصور الصيفية إشراقا، تلك المُطلة على حدائق الذاكرة الخارجة عن سباتها. شكلت النساء حلقات جلوس على الأرض لأجل التعارف ولطرح ما حقّقته الانتفاضة اللبنانية ولنقاش تناول الخطوات التالية، فكان ذلك ترجمة بصرية لأحوال ظروف شمعة “نوّارة” بطلة الحكاية. شمعة مشحونة بدفء غريب عُقدت أواصره على أرض الواقع بين غريبات لبنانيات في وطن واحد مُضيئات ومُضاءات بأمل “يتوهّج ضوءه حين يرانا ويزداد بريقه صعودا حتى السقف”. ضوء انتشر في سائر أرجاء وطن عرف شتى أنواع التشظيات الاجتماعية والسياسية. وقد عرفت مدن كثيرة كصيدا الجنوبية وطرابلس الشمالية وبعلبك البقاعية جلسات إضاءة شموع مُتشابهة قرّبت ما بين نساء وطن واحد شكّلن دورا أساسيا ومازلن في المشاركة في الاحتجاجات وإغلاق الطرق. وقادت حتى الآن العديد من النساء في مختلف المناطق اللبنانية، لاسيما بيروت وصيدا والنبطية، العديد من المظاهرات. وفي سياق ليلة الشموع تلك أكدت إحدى المتظاهرات أن ليلة الشموع هي حراك من نوع آخر غير منفصل البتة عن مسار الثورة العام. وقالت سيدة أخرى من القادمات خصيصا من جبل لبنان للمشاركة “لم أستطع منع نفسي من البكاء والتأثر.. أرى الأمل مضيئا في عيون الناس للمرة الأولى”. المتجوّل/الباحث والعاشق للصور الخارجة عن طورها أو عن طور أصحابها من أطفال ونساء مختلفات في الأعمار والانتماءات الدينية في ساحة “نور الثورة”، كما جرى على تسمية ليلة الشموع تلك، سيشعر وكأنه يتجوّل في قلب لوحات فنية متحركة اتصل بها اتصالا عاطفيا ضاغطا. سيعثر المتجوّل على وجوه النسوة والأولاد المضاءة بالشموع وقد تحوّلت إلى أفلاك نور خرجت عن صمتها. بعضها عبّر عن فرح مُجرّد بأجنحة خفَّاقة، لاسيما وجوه الأطفال الذين حضروا مع أمهاتهم، وسيلحظ وجوها أخرى استحالت إلى منابع ضوئية كما في لوحات الفنان جورج دولاتور، أو وجوها التحفت بضوء الشموع كما في لوحات جوهانس فيرمير. أما النساء المتقدّمات في السن الحاضرات في الساحات، فبخط ضوء الشموع المرتجف تحوّلت ملامح ذكرياتهنّ الشخصية إلى براعم وردية تضحك في العلن. لكن ربما من أكثر ما يشدّ نظر المتجوّل، هو وجوه نساء جيل الحرب. فتحديقهنّ في لهب الشموع بدا وكأنه أخذهنّ إلى أحلام يقظة ركنت سنين طويلة في دواخلهنّ مُنتظرة توضّح معالم قشة كبريت تنتظر هي الأخرى اشتعالها على رأس شمعة بسيطة. وجوه نطقت بشكل صارخ بما قاله يوما المفكر الفرنسي غاستون باشلار في أحد مؤلفاته “عزلتي حاضرة أصلا، فليحرقها من يحرقها”. ولعل احتراق هذه العزلة في ساحات الثورة يحمل بعدا إضافيا، لأنه احتراق يحدث ضمن الجماعة. أوله التهام الماضي، كوجبة باردة لم يعد يصلح تفويتها كلما استدعت الرغبة في ذلك، ثم الثورة على كل ما توقف أن يثور تحت ركام قهر لبناني الملامح. ويلي ذلك، استيعاب الشعلة الأولى، وإن بدت ضئيلة، كالحلقة الأمتن في عقد التواصل مع أحلام الآخرين السائرين في مسيرة واحدة يُحرق فيها كل ما يجب أن يُحرق ويُضاء كل ما يستحق أن يُضاء على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد الوطني في آن واحد. كما “نوّارة” في الحكاية الخرافية/الواقعية، نقف بصمت متأملين الشمعة الخارقة التي أطاحت بإناء احتضن طويلا دموعنا. لنسير بصمت من أمامها، “وحول شعلتها فلك مستنير.. يتوهّج ضوءه حين يرانا ويزداد بريقه صعودا حتى السقف. ما إن نراه حتى يتوسّع وينحرف مودّعا محوره”.

مشاركة :