تراثنا العربي بل والتراث الإنساني مليء بالقصص ذات العبر، وأنا ممن يعشقون التراث وكل ما له علاقة بالتاريخ، واليوم اخترت لكم قصة من التراث الجزائري، يظهر المغزى منها جليا، ولا يحتاج إلى شرح، كل ما علينا هو النظر من حولنا على ما يقوم به بعض الأشخاص، أو المؤسسات في معاملة من كان له يد في إضاءة الطريق ولو بشمعة، حقا هنالك من يضيء شمعة، وهنالك من يشعل حريقا من أجل أن يطفئ شمعة! تقول القصة بأنه في إحدى القرى البعيدة في الجبال، عاشت امرأة مع زوجها حياة بسيطة، ولكن لم تتصف بالهدوء، فكانا على خلاف دائم، إلى أن وصل الأمر بهما إلى الطلاق، فحزمت المرأة حاجياتها في بقشة رثة، وتوجهت عند الغروب إلى منزل أهلها في القرية البعيدة. كانت في غاية الحزن والقهر، خاصة بسبب انعدام الرجولة في طليقها، إذ تركها تسير وحدها في الغابة، وفي هذا الوقت بالذات من دون حماية، وبينما هي تسير سمعت زئيرا خلفها، هذا الصوت جمد الدماء في عروقها، وبعد لحظات عاشتها وكأنها دهر، نطق الصوت: «ماذا تفعلين وحدك هنا وفي هذا الوقت المتأخر؟» استدارت المرأة ببطء شديد إلى الخلف، فرأت هيئة ضخمة لم تستطع أن تعرف ماهيتها من شدة الظلام، فاقتربت الهيئة وإذا بها أسد ضخم بأنياب بارزة، وعينين تقدحان شررا من شدة اللمعان. من شدة خوفها ورعبها أجابت الأسد، وحتى إنها لم تفكر بغرابة أن الأسد يتحدث: «امرأة ظلمت وقذف بها في سواد الليل، وليس لي من يشفق على ضعفي ويحرسني، إلى أن أصل إلى أهلي» هنا قال الأسد: «بما أنك ضعيفة فلن أستغل ضعفك وأفترسك، استمري في طريقك، وسوف أقوم بحراستك حتى تصلي إلى أهلك». لم تصدق المرأة أذنيها، بأنها نجت من موت محتم، وأسرعت في خطاها قاصدة قرية أهلها، وكلما تلفتت خلفها وجدت الأسد على بعد خطوات منها يحرسها، ومع بزوغ الفجر وصلت إلى قرية أهلها، وسارت إلى أن وصلت باب منزلهم، وحين التفتت لم تجد الأسد. قرعت الباب ففتحت لها والدتها، ورأت الدهشة على وجوه كل من كان في المنزل من أسرتها، وبدأت الأسئلة تترى عليها من كل حدب وصوب. «لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟». حارت على من تجيب، وأكثر ما حيرها هو كيف ستحدثهم عن الأسد المتكلم. فأخبرتهم كيف أنها كانت تعاني من ضيق العيش مع زوجها، وكيف أنها بالرغم من تحملها ذلك ورضاها بقسمتها، لم يكن يقدر لها زوجها ذلك، بل كان دائما ما يبحث عن الشجار والتدقيق في كل صغيرة وكبيرة، إلى أن وصل الشجار إلى الطلاق، فتركها ترحل في ظلام الليل، دون أن يرف له جفن! هنا سألتها والدتها: ولكن كيف استطعتِ أن تصلي دون أن تتعرض لك الحيوانات المفترسة في الغابة؟! «أجابت: قابلت رجلا شهما قام بحمايتي إلى أن أوصلني إليكم»، بالطبع لم تكن تجرؤ على ذكر أنه كان أسدا وليس رجلا، لعملها بأنه لن يصدقها أحد، وما حدث بعد ذلك هو أمر غريب لم تكن تحتاج أن تذكره، ولكنها فعلت، أضافت وهي تضحك: «بالرغم من شهامته وقوته، ولكن كانت تخرج من فمه رائحة كريهة كلما تحدث إليّ». كان الأسد واقفا خارج الباب، فسمع بألم وحزن ما قالته المرأة عنه، وعاد إلى الغابة بقلب جريح، ومرت الأيام وعادت المرأة إلى القيام بواجباتها ضمن الأسرة، ومنها أنها كانت تذهب إلى الغابة لتجمع الحطب، وفي أحد الأيام وجدت الأسد واقفا أمامها، لم تخفه من قبل، ولكن حينما سمعت زئيره وهو يطلب منها أن تضربه بفأسها على رأسه، لم تتمالك نفسها وأخذت كل جوارحها ترتجف، قالت له: كيف أؤذيك وأنت من كان شهما معي، ووقف إلى جانبي وحماني في وقت الشدة؟!، ولكنه أصر على طلبه وأخبرها بأنه سوف يفترسها حقا هذه المرة إن لم تنفذ أوامره، ففعلت، وخلّف ذلك جرحا بليغا داميا على رأسه، صرخ ألما ثم تركها وعاد من حيث أتى واختفى داخل الغابة. وبعد مرور شهور، وجدت المرأة نفسها وجها لوجه مع الأسد نفسه، ولكن هذه المرة طلب منها أن تبحث عن أثر الجرح في رأسه، فلما لم تجده، قال لها: «هل ترين كيف شفي الجرح؟ ولكن الجرح الآخر لم يشفَ بعد» هنا نظرت إليه باستغراب وسألته: أي جرح؟ وهنا ذكرها بما حدث منذ وقت طويل، وكيف أنه ساعدها ووقف إلى جانبها حتى وصلت إلى أهلها، وكيف أنه سمع ما قالته عنه بعد أن أصبحت آمنة في كنف أسرتها، «أنتِ تعرفين أني حيوان مفترس، وطعامي يسبب لي هذه الرائحة، ولكنك رغم ذلك اعتبرتِ الأمر استهزاءً وسخرية، هذا جرح عميق تركتِه في أعماق روحي، لم يفارق ذاكرتي أو يشفى كما شفي جرح فأسك، يا لخبثكم أنتم أيها البشر، تردون الجميل بالجحود والنكران!»، ثم تركها واختفى إلى الأبد داخل ظلمات الغابة. حقا إذا لم تستطع أن تضيء شمعة فلا تشعل نارًا، بمعنى إن لم تكن شاكرا فلا تكن جاحدا تتنكر، بل يصل بك الحال إلى أن تحارب وتقصي من كان يوما جزءا منك، عزيزا كان أو صديقا، أو زميل عمل. تعبر ذهني هذه العبارات، تظهر وتختفي كلما صادفت مواقف من البشر، تدل على الجحود والنكران للجميل، وهذه ليست بمعلومة جديدة، فقد تناولتها قصص التراث منذ الأزل وبجميع اللغات، فالإنسان كما هو قادر على المساعدة والعون، هو أيضا قادر على النكران، بل وعلى البطش ومحاربة من كان له الفضل في حل مشكلة من مشكلاته، أو تطوير مستوى حياته، أو حتى إسعاده، وكم رأينا، وكم سنرى ونحن نعبر هذه الحياة.
مشاركة :