قراءة في المجموعة القصصية «رائحة الموسيقي»

  • 11/17/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

كتب: محمد آل مباركيؤلمني وأنا أتابع سيرة الإبداع في المحيط الواسع له أن يختفي وراء حجاب قلم يسطر ابتكارا للكلمة وابتكارا للواقعة. يرقى هذا القلم بما يكتبه إلى منزلة قد لا ترقى إليها أقلام يكرم أصحابها ويحتفى بهم، ومع ذلك يظل في الظل لا يسلط عليه ضوء ولا يكشفه خيط شمس يتسلسل من كوة الأمل بالمبدعين. ولا أدري كيف يختفي مثل هذ القلم، هل لأن من يكتب عن الإبداع لا يرى إلا ما يقع في يده من انجاز دون جهد في البحث عما لم يصله من تجليات مختبئة أم أن المبدع يهمل في حق نفسه فيظل حبيس تأملاته كأنه يحدث نفسه دون أن يسعى للإعلان عما يكتبه كي يمهد به الطريق لوصول إبداعه للناس. ثار هذا التساؤل في نفسي وأنا أقرأ المجموعة القصصية الموسومة «رائحة الموسيقي» للدكتور صبري حمد خاطر. عرفت أن هذا الكاتب هو دكتور في القانون، ويبدو أنه معروف جدا في الوسط القانوني وله مؤلفات عديدة في القانون،ولكن من ذا الذي يعرفه قاصا متميزا على النحو الذي عرفته حين بدأت بقراءة تلك المجموعة. لقد أدخلني الكاتب إلى عمق أحداث قصصه فكأني أعيش مع أبطالها أو أنني واحد منهم. وثارت دهشتي بمرارة أنه رغم كل ما تحمله هذه المجموعة من إبداع لم يسبقه أحد إليه لم أجد أحدا كتب عنها أو أشار إليها أو قدم دراسة نقدية بشأنها، بل الكاتب نفسه لم يحاول يوما أن يطالب بندوة يبين لنا فيها الرمزية العالية التي تشتمل عليها قصصه والأفكار التي تتوارى خلف الوقائع التي تنسج رؤية جذابة تحملك دون أن تدري إلى عالم من الخيال الذي يمتزج بالواقع في صور لا تتكرر. صور تنتثر وردا للمحبة مرة وأوراقا من الحزن مرة أخرى وتتدافع في حلبة الصراع بين العقل والعاطفة مرة ثالثة. لقد كتب مجموعته بأسلوب غير مسبوق. فهو يستخدم لغة محكمة في وضوح خلاب لتدرك حقا أنك أمام السهل الممتنع. وما أن تبدأ بقراءة القصة الأولى حتى تبحث عن الثانية ثم الثالثة وهكذا إلى أن تنتهي من المجموعة برمتها ثم تتمنى لو أنك نسيت ما قرأت لتقرأ من جديد. وحين أختار نماذج منها سأجد قصة «رائحة الموسيقى» التي عنون بها المجموعة مدهشة إلى أقصى غاية. فهو يتحدث عن العود حتى تشعر أن العود ليس آلة وإنما كائن حي قد يقطر دما أو يجمع الطيور حول رأسك وتجبر على احترام هذه الآلة بل تتغير نظرتك إليها مثلما حدث ذلك لي، فكلما رأيت العود شعرت أنه يحدثني بكلمات هامسة حتى لو لم يلمسه أحد لكنها تضج في أعماقي دون أن أدري. ولم أستطع أن أكتم دموعي بل تركتها تنساب على خدي حين قرأت للرجل لون آخر، إذ جعلتني هذه القصة أدرك أن المرأة الجميلة حين تقسو على الرجل يختفي الجمال ليقع الرجل صريع مشاعره وهو يقلع النباتات الضارة من الحقول في رمزية عالية ربما يقصد بها أن الذكورية ليست وحدها المسؤولة عن المساس بقدسية العائلة وإنما الأنوثة قد تفعل ذلك. وحين تقرأ قصة بيت من ورق التوت تجدها في عقل طفل في تصوير أبداعي متفرد إذ يحملك على الدخول في محيط من تصورات طفولية لترى من خلالها ما يحدث بين الكبار. ومن خلال الطفولة يجعلك تفكر في قضايا كبرى تتعلق بقوى الخير الشر مستخدما رمز الغراب للشر والشجرة للخير. ويثير في قصة ذاكرة خاصة للحب مسألة جحود الابن للأم. والفكرة التي تثير الاستغراب بشأنها أن يحدث الجحود من المتعلم وليس من جاهل. فيبدأ برسم قصته من معلم يطرد أمه ومعلم يرعاها دون أن يعلم القربي بينهما وحين يكتشف هذا المعلم أنها أم صاحبه يصب جام غضبه عليه إلا أن الأم تنكب على صورة ولدها لتحميه كما لو كانت تحميه من مرض عارض إذ تتحدى الجحود القاسي بصدر حنون. ومما تشتمل عليه هذه القصة من ابداع مذهل أنها تتناول حدثا مألوفا ولكن تحوله إلى واقعة مستحدثه كأنها تقع لأول مرة وفي الوقت ذاته تشتمل على معاني تدخل إلى القلب فتثير الرحمة والمحبة والبر بالوالين. أما في قصة لا تصلح للنشر فيثير الكاتب مشكلة من يحاول الإبداع فيصطدم بعقول لا ترى إلا العوامل السلبية وإن قلت وتنسى الكم الكبير من الإبداع لتقتله في مهده. وهكذا كل قصص المجموعة تختفي فيها سريالية الأسلوب لتظهر جمالية العبارة التي ترفرف بجناحي الأسلوب والمعنى. ولتحط بلونها العجيب في النهاية على قمة مشرقة بالأمل في أن يجمع الأدب بين التشويق والفكرة والاستمتاع بالقراءة والاستفادة من ايحاء القلم. ومن هنا أدعو بصدق إلى قراءة تلك المجموعة التي تحمل فعلا رائحة لموسيقى الإبداع والفن وثقافة المعنى في إطار من الجمال.

مشاركة :