تبدو الكتابة الإبداعية التي تتناول حياتنا اليوم في مخاض انتقالي دائم مع تسارع الانقلابات الكبيرة، التي تعصف بتفاصيل حياتنا، وخاصة الأعمال الروائية، التي هي بدورها محور معظم الأفلام والمسلسلات، التي نشاهدها على شاشة التلفزيون وفي دور السينما. لكن تلك الأعمال، التي تعتمد على مخيلة المؤلف، حتى إذا تمكنت من الاقتراب من واقع تغلغل وسائل التواصل الاجتماعي والفضاءات الرقمية في حياتنا، فإنها من الصعب أن تتابع وتيرة التحولات المتسارعة، التي ما تلبث أن تتغير بين يوم وآخر. ويبدو أن العالم الرقمي يسمح للكتاب بالعثور على أساليب جديدة للكتابة، حيث لا يقتصر تصوير عالم الإنترنت على تكييف المشاعر والشخصيات، بل يسمح بالتحرر من قوالب الكتابة ويبث روح الدعابة التي تتميز بها حوارات الإنترنت. تأثير الابتكارات الجديدة على حياة البشر، ليس أمرا جديدا، حيث كانت على مر عصور طويلة، مصدر إلهام للكثير من الكتّاب، مثل ارتباط كتابات توماس هاردي بالثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وارتباط كتابات ماري شيلي باختراع وانتشار استخدام الكهرباء في بدايات القرن الماضي. لكن طوفان العصر الرقمي المتسارع في القرن الحالي، جاء بتحولات وانقلابات شاملة، تغلغلت بدرجة غير مسبوقة في حياتنا الخاصة، وأعادت تشكيل جميع تفاصيلها. ورغم ارتباط حياة معظم البشر بذات التحولات التكنولوجية، إلا أن كل شخص أصبح اليوم لديه ارتباطه الفريد بالتكنولوجيا، الذي تحدده خوارزميات تعكس طبيعة اهتمامه بالعالم الرقمي. ومع توسع الميزات التي توفرها التكنولوجيات الجديدة، أدمن البشر طرقا جديدة للتواصل. وأصبحت هذه الأنظمة الرقمية جزءا أساسيا من حياتنا، المحفوظة في ملفات خاضعة للمراقبة. ويمثل ذلك الإحساس الجديد المرتبط والمتداخل من إدماننا على التكنولوجيا، تحديا جديدا بالنسبة للكتاب، الذين يحاولون تصوير طبيعة حياتنا الجديدة. لم يعد الأمر من المنطقي بالنسبة للأجيال الجديدة من الكتّاب، الذين انغمسوا في وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الرقمية منذ سن مبكرة، أن يتجاهلوا هذه العلاقة في أعمال الخيال الإبداعي التي يكتبونها. عالم جديد وكتابة جديدة في مقال في صحيفة فايننشال تايمز تتساءل ريبيكا واتسون عن قدرتنا على التخلي عن إدماننا على مواقع التواصل الاجتماعي وما إذا كنا قادرين على العيش من دون هواتفنا الذكية. كما تتساءل: كيف يتعامل الكاتب المعاصر مع الجانب الرقمي من حياتنا ليدمجه في الخيال؟ ولتقريب ملابسات ذلك، تشير إلى الرواية الأخيرة، التي أصدرتها الكاتبة لويزا ساوما، والتي تحمل عنوان “كل ما أردته طوال حياتك” حيث تترك فيها آيرس، وهي فتاة مدمنة على التكنولوجيا من جيل الألفية، الأرض للانضمام إلى مستعمرة على الكوكب نيكس. وبسبب غياب الأكسجين في الكوكب الآخر، وجد سكان المستعمرة أنفسهم مجبرين على البقاء في الداخل، حيث تراقبهم كاميرات تنقل كل تحركاتهم على مدار الساعة إلى مراقبيهم المتواجدين على كوكب الأرض. وتصور الرواية كيف اعتادت الفتاة بعد سنوات على المشهد الذي تراه يوميا من النافذة، وأصبحت تتخيل “الرمال الوردية” و”السماء الزرقاء” كما لو كانت خلفية لجهاز كومبيوترها الشخصي، رغم أنها لا تمتلك أي أجهزة إلكترونية في المستعمرة على كوكب نيكس. وتشير الرواية بذلك إلى أن آيرس لم تتمكن من مغادرة الرغبة في استعمال هاتفها، وعوضت ذلك بالعيش تحت غطاء كونها شخصية يعجب بها مستخدمو الإنترنت الذين يتابعون حياتها من الأرض. وأصبحت مهووسة بالكاميرات التي تراقبها، إذ تتحقق من الضوء الأحمر يوميا لتتأكد من أن الأجهزة تصورها. وتتخيل المشاهدين الذين يتابعون حياتها على الأرض، أي أنها رغم استحالة وصولها إلى جهاز إلكتروني، إلا أنها لم تخسر الرابط الذي كان يجمعها بالتكنولوجيا. تقول واتسون في مقالتها في صحيفة فايننشال تايمز إن بعض الكتّاب مثل بن ليرنر وسالي روني، نجحوا في إدخال الدردشات عبر الإنترنت في قصصهم بطريقة مشابهة لكتابة الحوارات المباشرة. لكنها تشير إلى أن طريقة الكتابة تختلف قليلا عما يجري على مواقع التواصل الاجتماعي. وتضيف أننا في الحوارات عبر الإنترنت، لا يمكننا في معظم الوسائل رؤية تعبيرات الوجه ولا يمكننا سماع نبرات الصوت، مما يخفي نفسية المشاركين في الحوار. وتقول إن ذلك يفتح فضاءات واسعة للخيال الإبداعي لتصوير المحادثات الرقمية وتجاور حالات العزلة والتفاعل في وقت واحد، إضافة إلى أن هذه المغامرات توفر للكتّاب فرصة الخروج من النثر التقليدي. وتشير إلى حوار في كتاب بن ليرنر، الذي يحمل عنوان “مغادرة محطة أتوشا” حيث يصور الكاتب شخصية آدم في مدريد وهو يتحدث إلى سايروس في المكسيك. وتستشهد بجانب من حوار تحاول فيه سايروس أن تخبر آدم بأنها شاهدت غرق فتاة، في حين يتأخر آدم في التفاعل مع ما تقوله، لتصور الكاتبة الفارق بين التواصل الفعلي والتواصل عبر التطبيقات الإلكترونية. وتبرز في طريقة الكتابة صعوبة التواصل، إذ تبدو العاطفة محصورة في حدود الدردشة عبر الإنترنت. إذ على الرغم من هول الخبر الذي تنقله سايروس، فإن ردة فعل آدم لم تعكسه. ويتلاشى ذلك الخبر سريعا، حين ينتقل الصديقان للحديث عن مواضيع أخرى بعد أن تسأل سايروس عن الأحوال في إسبانيا. أساليب حوار جديدة وتشير واتسون إلى رواية الكاتبة سالي روني “محادثات مع أصدقاء” التي تبحث فيها بطلة الرواية فرانسيس، في سجل محادثاتها مع صديقتها السابقة بوبي. وتكتب فرانسيس كلمة “مشاعر” في النافذة المخصصة للبحث لتظهر أمامها محادثة مع بوبي تعود إلى فترة كانتا فيها في السنة الثانية في الجامعة. وتدرج الرواية حوارا عن مشاعر الصديقين وهما يعبران عن فلسفة التعبير عن المشاعر ودرجة الإفصاح عنها أو كتمانها. واستغلت الكاتبة في روايتها تلك العودة إلى محادثة قديمة تبدو مفككة بعد مرور وقت طويل عليها، لتشير إلى أننا لم نعد في أحيان كثيرة بحاجة إلى ذاكرتنا للعودة إلى الماضي، الذي تم فيه التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وأشارت إلى أن تلك الذاكرة لا تسقط انطباعاتنا وتعيدها إلى أصلها الذي لا يقبل التغيير ولا يمكن تذكرها بتفاصيل خاطئة. واستغلت المؤلفة ذلك في التوسع في تناول الصراع بين الألفة والعزلة في إطار انغماسنا في بحار التواصل الاجتماعي. مفارقة التواصل والعزلة هناك مفارقة كبيرة في معظم القصص والروايات، التي تدور أحداثها في العصر الرقمي، وهي أن الشعور بالعزلة يطارد معظم شخصيات تلك القصص والروايات، لأن سهولة الاتصال عبر التطبيقات الإلكترونية تدفع للانقطاع عن الآخرين في الحياة الفعلية. في كتاب “أنا الجديدة” (ذي نيو مي) الذي ألفته الكاتبة الأميركية هالي باتلر، تعاني بطلة الرواية ميلي، من الاكتئاب، وتلجأ إلى الاعتماد على مشاهدة التلفزيون للهروب من شعورها بالوحدة، وكي تتجاهل هاتفها لتتفادى الرسائل التي تصلها. وتعالج الرواية المفارقة في كون الشخصيات التي تتابعها ميلي في المسلسلات والأفلام، لا تشاهد التلفزيون ولا تستعمل هواتفها أو أي أجهزة أخرى، إلا إذا تطلب السيناريو ذلك. وتبدو ميلي في الرواية غير متعاطفة مع الأشخاص في محيطها. وترى في كل ما حولها مجرد “كليشيهات مبتذلة”. وتشير الكاتبة بذلك إلى تعقيدات انتقال معظم محاور حياتنا إلى فضاءات اصطناعية. ويظهر ذلك أيضا في رواية لويزا ساوما، التي سبق ذكرها، حيث تبدو آيرس مفتقرة للمشاعر المناسبة عند مشاهدتها لغروب الشمس، قبل ساعات من مغادرتها إلى كوكب نيكس. وتقول في الرواية بلامبالاة في تلك اللحظة “لن يكون هناك غروب في نيكس” لكنها تحرص على التقاط صورة لها مع الشمس الغاربة وتحميلها على موقع إنستغرام، بل إنها انتظرت أن يبدي شخص إعجابه بمنشورها. ويقدم ذلك صورة مربكة يعيشها كثيرون اليوم بسبب انتقال محور حياتهم إلى عوالم التواصل الاجتماعي حتى أصبح مبرر جميع ما يقومون به في الحياة الفعلية، هو نقله إلى مواقع التواصل الاجتماعي. زلزال الحياة والكتابة تقول واتسون إن وسائل التواصل الاجتماعي تغمرنا بالقدرة على الانتقال من صفحة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر، حيث يمكننا إخراج شخص ما من حياتنا بمجرد نقرة واحدة على علامة “إلغاء المتابعة”. وتضيف أننا في حساباتنا الرقمية، نترجم أنفسنا إلى كلمات ونختار الأشخاص الذين يمكن أن يدخلوا مساحتنا الخاصة، وأولئك الذين نطردهم منها. وتذكر أنها حين بدأت في كتابة روايتها الخاصة، وجدت مشكلة في دمج الواقع الرقمي في حياة بطلة الرواية، وهي شابة في العشرينات من عمرها، لكن تجاهل هذه الجوانب من حياتها أمر غير معقول. وتقول إنها وجدت أن إدخال العالم الرقمي إلى السرد، فتح بوابة على الشخصيات الأخرى على حساب بطلة الرواية التي ازدادت عزلتها. لكن ذلك ساعدها في تحرير بنية الكتابة وفتحها على احتمالات جديدة. وتضيف واتسون أن معرفة مدى توغل العالم الرقمي في حياتنا، قد تكون مخيفة، لأنها خارج نطاق سيطرتنا. لكن الأمر يختلف بالنسبة للكتاب، الذين قد يجدون أن هذه التفاصيل مفيدة في فتح آفاق جديدة.
مشاركة :