إن علماء هذه الأمة قد حفظوا لنا كتب الأدب والرقاق والأخلاق ليس لتناقلها فحسب، بل لتصوير تلك المجتمعات من الزاوية الأخرى التي أغفلها الفقه، ولم تجد كتب العقائد ونحوها مناسبة لنقلها وبسطها.. لا شك أن الصلة بيننا وبين زمن السلف هي الموروث الذي تناقلته الأمة جيلًا بعد جيل، وأوصله إلينا ناقلو الآثار مدوًنا ومخدومًا بحسب ما يعرفه علماء وفقهاء هذه الأمة، حتى القرآن الكريم، لم يصل إلينا إلا محمولًا في صدور الحفاظ والقراء ومكتوبًا في المصاحف وبأسانيد اليقين المتواتر الذي تغني كثرتها عن حصرها وعدها. ثم تأتي المرويات الحديثية والتفسيرات الأثرية بمراتب قد أفنى العلماء أعمارهم في تنقيحها وتثبيتها والتأصيل لها، وما بين أيدينا موروث تاريخي؛ فقهي أو عقدي أو أدبي، أو في السير والأخلاق وفي الرقائق والوعظ وفي علوم اللغة والعلوم الأخرى، من كل ذلك تتشكل لنا الصورة الاجتماعية التي كان عليها السلف رحمهم الله. وإن الناظر في هذا الموروث لا يستطيع أن يتصور كيف عاشت تلك القرون إلا بالتضلع في هذا المنقول عنهم، وما دون ذلك تجد علامات الاقتصار على علم من تلك العلوم تبدو واضحة في سير وتآليف وفتاوى كثير من علماء الأمة، فكل عالم يهتم بجزئية معينة من هذا الموروث تجد كلامه وتصوراته تنضح بقدر معرفته، وليس معيبًا أن يهتم العالم بهذه الجزئية ويدونها ويرسم قواعدها وتأصيلها، فإن هذا هو ما سار عليه العلماء سلفًا عن خلف، ولكن المعيب في الأمر هو أن تسرق نفسية الناظر في هذا "الفن" طباعًا محصورة بما بين دفتي الكتاب وتظهر على تفاصيل حياته دون تأليف ودمج بينها وبين بقية الطباع المنثورة في المنقول عن السلف. ومن الطرائف "قيل لأحد العلماء ما رأيك في البيت الشعري: لم أدرِ حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها والبالي؟ فأجابه: بلا تردد هذا شعر فقيه! فقال: كيف عرفت؟ فقال: بقوله: ما الفرق!!" وهذا إحساس وسمة عرف بها "شخصية الشاعر" وأن شخصيته الفقهية ظهرت في ثنايا شعره الذي من المفترض أن يكون بعيدًا عن استخدام ألفاظ وأساليب الفقهاء. وربما وجدت الكثير في زمننا هذا ممن يقتصر ليس على علمٍ واحد بل على شيخٍ أو تآليف لشخص واحد، فيتأثر بما أودعه في كتبه من أساليب وطباع، وربما كان الآخذ أضيق من الناقل. إن علماء هذه الأمة قد حفظوا لنا كتب الأدب والرقاق والأخلاق ليس لتناقلها فحسب، بل لتصوير تلك المجتمعات من الزاوية الأخرى التي أغفلها الفقه، ولم تجد كتب العقائد ونحوها مناسبة لنقلها وبسطها، وهي في الحقيقة تصور تلك المجتمعات في حياتهم العادية التي تجاوزت حصرها في "طقوس" يحاول الكثير من الأفراد والجماعات فرضها على المجتمعات باعتبارها هي الحياة التي كان عليها الأسلاف، بينما اعتبرت تلك الأدبيات والمجالس والمزحات والفكاهات شيئًا يقرؤها خاصة الناس، وتوضع كتبه على الرفوف، وربما لمز وغمز من حاول بث ما أودع فيها من آثار وصور مجتمعية كان عليها السلف تخالف ببساطتها وسماحتها ما عليه تلك الجماعة أو ذاك الشيخ، حتى إنك تجد - أحياناً - الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرسم صورة اجتماعية واضحة المعلم تخالف ما يقرره ذاك أو تلك، لكن تجد التحرج والتخوف من مجرد قراءة الحديث أو التغريد به مثلاً فضلًا عن شرحه ونقل أقوال الشراح له! كل ذلك لمخالفته "ما عليه" تجمعهم المصنوع من نفسيات وطبائع تشكلت من كتب ومؤلفات اقتصرت على نقل الأحكام والقواعد والفقه، وتركهم ما به تعرف الحياة الاجتماعية التي كان عليها السلف والتي نقلت كما هي في كتب السير والأدب التي ظلت وستظل على رفوف المكاتب إلى أن يشاء الله. هذا، والله من وراء القصد.
مشاركة :