الحرية تعلو ولا يعلو عليها سوى القانون والقيم

  • 11/20/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

المجتمع الذي يسوده رأي واحد، مجتمع غير طبيعي بالضرورة   وردني تعقيب من أحد القراء الكرام حول ما جاء مقال الأسبوع الماضي بشأن تدني لغة ومستوى التخاطب في المجتمع نتيجة العديدة من التوترات من ناحية، ونتيجة تدني مستوى القيم من ناحية ثانية.    جاء في التعقيب الطويل بوجه خاص: «إن أساس المشكل في تقديري يعود إلى عجزنا عن إدارة الخلاف عامة، والخلاف السياسي بوجه خاص، حيث تطفو على السطح ترجمة فورية لصراعاتنا وخلافاتنا السياسية والاجتماعية وحتى الطائفية، غبر ما يتيحه الإعلام الجديد من أدوات التخفي والتلاعب والإثارة والتحريض. وتبدأ الحرب التي تستقطب جيوشًا من الجاهزين (للقتال والجهاد)، والدخول على خط الضرب تحت الحزام. ويزداد الأمر سوءًا عندما يكون جزء من المشتغلين بهذه العملية غير مؤهلين لا مهنيًا ولا فكريًا، وربما حتى قيميا، بل وكثير منهم بدا وكأنه قد تجرد (بسبب انعدام المسؤولية الأخلاقية والقانونية) من القيم ومن روح المسؤولية، فأصبحت الساحة أقرب إلى ساحة حرب، وقصف متبادل، تسهم ربما من دون إدراك في تدمير البنية الاجتماعية التي تطلب أمر توحيدها قرونًا من الزمان، دون أن يشعر هؤلاء بالآثار السلبية لمثل هذا السلوك.. لقد أدرك الجميع خطورة هذا النوع من الإعلام حيث يتم استخدامه في بعض الأحيان بشكل سلبي للتوتير، خاصة بالنسبة للذين اعتبروا الديمقراطية مجرد حقوق وحريات، من دون قيود أو حدود. ولذلك تم خلق جو خانق مشحون بالتحريض والمزايدات والترويج المتبادل لأفكار سلبية، فوقع المحظور، ولذلك أرى الحاجة إلى وضع الخطوط الفاصلة بين الحرية والمسؤولية.. وأتساءل عن الكيفية التي يمكن الحد من خلالها من المخاطر المتزايدة لمثل هذا الاستخدام السلبي لهذا النوع من الاعلام؟». هذا باختصار رأي القارئ الكريم.   وفي الرد على القارئ المحترم كتبت: مازلت أعتقد بأن الأساس هو الحرية التي يجب أن تعلو ولا يعلو عليها سوى القانون. والانحرافات التي نشهدها عبر الإعلام الجديد أو القديم في بعض الأحيان ليست هي القاعدة، ولا يجب أن تقود إلى التقييد الكاسح إلا ما يقيده القانون. لأن الحرية سقفها الوحيد هو القانون والقيم. وإذا كان من الطبيعي أن تؤدي مناقشة أي ملف وطني أو إنساني إلى اختلاف الآراء والمواقف، بحسب المواقع والرؤى السياسية لكل طرف، وبحسب المصالح التي يدافع عنها كل طرف، وإذا كان من الطبيعي أن يكون الإعلام في مقدمة العناصر التي تعكس هذا الجدل وهذا الخلاف وتلك الأفكار والرؤى، وكلما نجح الإعلام بكافة أشكاله في استيعاب ذلك الاختلاف في سياق سلمي وحضاري، كان ذلك أنفع للبشر، وكان مؤشرًا على قدرة المجتمع على إدارة صراعاته سلميًا.. وكانت تلك علامة من علامات قوة المجتمع ونضجه وحيويته وسلامته، لأن المجتمع الذي يسوده رأي واحد، ولا يسمح إلا لرأي واحد وحيد بالظهور هو بالضرورة مجتمع غير طبيعي. وإذا كان كل ذلك غير مقبول بالمعيار الديمقراطي في سياق أي مجتمع حر، فإنه من غير الطبيعي ولا المقبول أيضا أن يتحول هذا النوع من الإعلام إلى أداة لتخريب العقول والنفوس، بما يستحيل رتقه لاحقًا. لذلك فإن ما نطالعه من جدل إعلامي عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثلا، أمر طبيعي، بل ومطلوب في أي مجتمع ديمقراطي، ولكن الأمر غير الطبيعي هو أن يتحول ذلك الجدل إلى ما يشبه الحرب الطاحنة.. كما أن الحديث عن «ترشيد» الحرية الإعلامية وما تنشره المواقع الإلكترونية، يبدو حديثا غير واقعي لأنه فير قابل للتطبيق أصلا، كما انه من الناحية المبدئية لا يجب أن يؤدي إلى التضييق على الحريات، خاصة في ظل السماوات المفتوحة وثورة الاتصال التي أنهت احتكار الإعلام والمعلومة، والتحكم في المدخلات المعرفية والمعلوماتية ومخرجاتها. ولذلك فإني أرى أن ممارسة الحرية، تواجه بالحدود التي يفرضها القانون فقط، وبوضعها على محك اختبار المسؤولية، حتى تكون بحق حرية خلاقة ومفيدة للأفراد وللمجتمع معًا.. لقد تجاوز دور الإعلام الجديد ما درجنا على توصيفه بالثورة الإعلامية والاتصالية بمعناها التقني والعولمي، إلى مرحلة التأثير الحيوي في الحياة السياسية والاجتماعية، بل وتحول الإعلام الجديد إلى قوة فاعلة في مجال التغيير السياسي، حيث بدأت تتعزز فكرة التقاطع بين التكنولوجيات الإعلامية الحديثة والسياسات الحكومية، وذلك بهدف إضعاف رقابة الدولة على المعلومات، وإرساء النموذج الليبرالي التنافسي في الاقتصاد والسياسة من ناحية ثانية، باستخدام التقنيات والوسائل الاتصالية والإعلامية الجديدة في التعبير الجماهيري الجديد، وفي النضال السياسي والثقافي وفي تنظيم الاحتجاجات، بل وتحوَّل هذا الإعلام الجديد في بعض الأحيان إلى إعلام بديل -ورغم عيوبه العديدة- فإن الجمهور يتواصل من خلاله وينتظم سياسيًا. وإذا كانت الثورة الاتصالية قد ساعدت في حل العديد من المشكلات التي يمكن حلّها في نطاق الأولويات الكبرى مثل التعليم والصحة والنظام القضائي وخدمات البريد، أو فيما بات يسمى اليوم بالحكومة الإلكترونية، فإن السنوات الأخيرة قد شهدت تسارعًا مذهلًا في حركة الاتصالات وشيوع تطبيقات شبكة الإنترنت كوسيلة اتصال جماهيري وضعت أمام مستخدميها عددًا ضخمًا ومتناميًا من مصادر الأخبار والمعلومات المتحررة من قيود الزمان والمكان، ومن سلطة الرقابة الحكومية، حيث أصبحت الإنترنت وسيلة إعلامية لإثارة الجدل والحوار الديمقراطي، وأضافت أبعادًا إضافية للاتصال مقارنة بالوسائل التقليدية الأخرى منها: الطبيعة التفاعلية وصعوبة السيطرة والرقابة عليها، واتساع نطاق القاعدة الاجتماعية المستخدمة لها، تحول الجمهور المتلقي فيها من مجرد مستخدم ومستهلك مجهول للرسالة الإعلامية إلى مشارك فاعل في تشكيلها.أما هذه الحرب التي تكرس حالة الخلاف فلا علاقة لها بالإعلام نفسه، بل بالسياسة بالدرجة الأولى وبصراع المصالح... كما أنه من الواضح في سياق التجربة العالمية أو العربية تنامي التأثير لانتشار واتساع تزايد قاعدة مستخدمي الإنترنت على عملية التحول الديمقراطي، نظرًا لتزايد القاعدة الاجتماعية المستخدمة للأنترنت وتوسيع نطاق الوصول إليها، لتشمل قطاعات وفئات اجتماعية عريضة، حيث بدأت تعكس تغيرًا ملموسًا في طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين النخبة والجماهير.   همس صاعدًا  إلى الغيمة البيضاء، أبحث عن منفاي،  على خُطى الأمل. تغتالني اللحظة  خلف التلة البعيدة، وأنا أتوارى عن نفسي في ثنايا الغيمة الأخيرة.

مشاركة :