بينما يؤكد الناقد د. أحمد بلبولة - في بحثه "الحركة النقدية وخصائص الشعرية المعاصرة في مصر" المنشور بالتقرير الأول لحالة الشعر العربي - أنه يكاد يكون هناك إجماع بين النقاد وأصحاب الدراسات التي عالجت شعر الشباب في مصر على هيمنة القصيدة العمودية على إبداعهم في مقابل قصيدة التفعيلة، يذهب الناقد د. محمد عبدالباسط - في بحثه المنشور في التقرير نفسه تحت عنوان "الشعر المصري الراهن بين جماليتين" - إلى أن قصيدة النثر تهيمن على المشهد الحالي، مكررا أن قصيدة النثر هي الأكثر حضورا من حيث عدد الشعراء والاشتغال النقدي، مؤكدا أن قصيدة النثر قوضت البناء التفعيلي. فأيهما نصدق عن مشهد شعري واحد، بلبولة أم عبدالباسط، والاثنان يقدمان رؤيتهما أو شهادتهما عن الحالة الشعرية المصرية؟ والغريب في حالة عبدالباسط أنه وهو يدلي بشهادته أو يكتب دراسته حول المشهد الشعري المعاصر خلال الأعوام الأخيرة - وهو هدف التقرير الذي يريد أن يضع تصورا علميا حول الشعر العربي الآن، وعليه اشتمل عنوان الموسوعة أو التقرير الصادر عن أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف على العام 2019 - الغريب أن عبدالباسط يعود لدراسة دواوين شعرية صدرت منذ أكثر من خمسة عشر عاما، بل أن هناك ديوانا صدر عام 2001، وديوانا صدر عام 2005، وديوانا صدر عام 2008، بل أن هناك ديوانا صدر عام 1991، وآخر صدر عام 1998، وبالتأكيد هذه الدواوين لا تمثل الحالة الشعرية المصرية الآن كما يريد التقرير. ولو عاد الناقد د. محمد عبدالباسط لسلسلة "الإبداع الشعري المصري المعاصر" التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب على سبيل المثال، لوجد عشرات الدواوين التي صدرت "ورسمت بصدق خريطة الشعر المصري المعاصر في مرحلة التجديد، وفي ضوء القيم الفنية الأصيلة" وهو الشعار الذي رفعته تلك السلسلة التي رأسها الشاعر أحمد سويلم ثم توقفت عن الصدور بعد أن أصدرت أكثر من 150 ديوانا شعريا لشعراء مصريين من كل الاتجاهات. على أية حال يقسم عبدالباسط دراسته – كما يتضح من عنوانها "الشعر المصري بين جماليتين" – إلى قسمين: قصيدة النثر والقصيدة الموزونة، قائلا: يمكن لمتتبع قصيدة النثر – في مصر – أن يضع يده على ثلاث شعريات أساسية، تخترق ما سواها من شعريات فرعية، وهي: الشعرية التداولية (المفرطة) والشعرية السوريالية، وشعرية الجسد الإيروسي. معترفا أن قصيدة النثر ذات إشكالية في تواصلها مع المتلقي العام. فكيف تكون هذه القصيدة هي المعبرة عن المشهد وقد فقدت التواصل مع المتلقي العام؟ أما القصيدة الموزونة، فهي التي تشبع ذائقة المتلقي تصويرًا وإيقاعًا، وهي بخلاف قصيدة النثر التي تتحرك في فضاء خارج الفضاء الجماعي. ويعترف عبدالباسط أن السجال المطروح بين القصيدة الموزونة وقصيدة النثر أكسب الأولى كثيرا من المرونة لم تعرفها من قبل، أو عرفتها من قبل، ولكن ليس بمثل هذا التكثيف. ويرى عبدالباسط أن القصيدة الموزونة تعبر عن الذات الفردية وتنشغل بالقضايا الجماعية على السواء، وكثيرا ما تبدو إشكاليتها في قدرتها على إشباع النموذج التاريخي والانحراف عنه في الوقت نفسه، ومن هذه الزاوية تحديدا تأتي جماهيريتها الملحوظة حين تُلقى أو تنشد في المحافل. ويرصد الناقد عددا من أهم الأسماء الممثلة لتيار القصيدة الموزونة – حسب رؤيته - ممن ينتمون إلى أجيال مختلفة ابتداء من السبعينيين والأجيال التالية، غير أنه يخلط بين انتماء الأسماء لأجيال بعينهاـ فعلى سبيل يضع الشاعر أحمد سويلم بين السبعينيين في حين أن سويلم ينتمى لجيل الستينيات، وقد صدر أول ديوان له عام 1967 بعنوان "الطريق والقلب الحائر" عن دار الكاتب العربي وكان يكتب قبلها بطبيعة الحال، كما أنه يغفل ذكر أسماء لها أهميتها وحضورها القوي في الشعر المصري مثل محمد إبراهيم أبوسنة المجايل لسويلم، وفوزي خضر (وهو من السبعينيين وصدر له حتى الآن 14 ديوانا شعريا، وصدرت أعماله الشعرية الكاملة على جزئين، وكتب عنه كبار النقاد في مصر مثل د. عزالدين إسماعيل ود. عبدالقادر القط، ود. صلاح فضل، ود. محمد زكي العشماوي، وفاروق شوشة، وغيرهم) وهناك أيضا شعراء آخرون مثل عزت الطيري ودرويش الأسيوطي وجميل عبدالرحمن وأحمد محمود مبارك وغيرهم لهم تجارب مهمة وأعمال كثيرة في إطار القصيدة الموزونة. ويتعرض الناقد في إطار استعراضه لجمالية القصيدة الموزونة لشعرية المجاز التداولي، ومواكبة الأحداث الجارية كما عند حسن طلب، ويقرر أن الوضع العربي كله خصوصا بعد غزو العراق وانتهاء حلم الوحدة العربية قد أثّر بشكل قوي على الشعراء وجعلهم يقارنون بين الوضع العربي الحالي ووضع ملوك الطوائف قبيل سقوط الأندلس وكأنهم يدقون ناقوس الخطر مثلما فعل الشاعر د. أحمد نبوي تحت عنوان "تذييل على عصر الطوائف". كما يتحدث الناقد عبدالباسط – في ظل دراسته للقصيدة الموزونة - عن شعرية غياب المرجع، رغبة من الشعراء في كتابة نص لا يشير إلى شيء خارج ذاته. كما يتناول شعرية الغزل ويدلل بنصوص لأشرف البولاقي من ديوان صدر له عام 2012. ويرى عبدالباسط أن القصيدة الموزونة احتفظت لدى المتلقي العام بمساحة واضحة وحافظت عليها، فلم تهدرها في مغامرات تجريبية تصدع العلاقة بينها وبين المتلقي الذي تشبع عبر مراحل التعليم المختلفة بهذا النموذج الجمالي، وهذا ما يفسر الجماهيرية الملحوظة التي تحظى بها حين تُنشد بصرف النظر عن التقييم الفني لها. ويؤكد على أن القصيدة الموزونة بدت وكأنها اليقين، في وقت تعيش فيه الذات المثقفة – بشكل عام – حالا من الاضطراب والشك والحيرة، وهي تسمع شعرا لا تعرفه، أو لا يشبه ما تعرفه، ولا يمكنها أن تتابع مغامراته بسهولة، ويرى أن القصيدة الكلاسيكية على موعد مع هذا المتلقي لتعيد إليه كثيرا من التوازن، حين تسمعه شعرا يمكنه أن يتجاوب معه، وتحدثه في قضاياه التي يعاني منها سواء على المستوى الفردي أو الهم القومي، تماما كما كان يحدث الشعراء مستمعيهم عبر تاريخ الشعر الطويل. وأعتقد أن في هذا الرأي الأخير لناقدنا د. محمد عبدالباسط تكمن شعرية القصيدة الموزونة التي لا تستطيع قصيدة النثر أن تطالها.
مشاركة :