"الاعتذار أسهل بكثير من الحصول على إذن”.. تلك مقولة شهيرة قالتها رائدة علوم الحاسب الآلي الأميركية والأدميرال البحري غريس هوبر في العام 1986. لا بد أن عدم الاكتراث للاعتراضات كان مفيدا للغاية بالنسبة إلى امرأة تفوقت في مجالين يهيمن عليهما الذكور، لكنه أمر لا يسر كثيرا حين يكون وسيلة للتحول الاجتماعي. إن النظام الهجين في تركيا -الديمقراطي على الورق، والمستبد في ممارساته العملية- يهتم اهتماما شديدا بالمظاهر. أحيانا يتطلب الإنقاذ العاجل للنظام اتخاذ المزيد من الإجراءات الاستبدادية التقليدية، مثل إجراء إعادة الانتخابات مرتين في غضون أربع سنوات أو تغيير ساسة المعارضة المنتخبين أو تجريد المدن التي تهيمن عليها المعارضة من رؤساء بلدياتها. غير أن الأنظمة الهجينة تبني شرعيتها على التشدق بالمبادئ الديمقراطية، والاستبداد المتعجل المستميت لا يبدو جيدا. فما يبدو أفضل بكثير هو الإملاءات غير المباشرة التي تحول مؤسسات الدولة والمجتمع تدريجيا. ذلك هو الفارق بين وضع الضفدع في الماء المغليّ وبين وضعه في ماء بارد ثم تسخينه تدريجيا. وهكذا، أرست تركيا على مر السنين نظام حكم بالأمر الواقع. فتقوم الحكومة في الأساس بفرض حالة أمر واقع، لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بمسألة مثيرة للجدل الشديد، وبمجرد أن يصبح هذا الواقع الجديد مقبولا لدى عدد كاف من الناس يتم تغيير القوانين وفقا لذلك. في الأسبوع الماضي، هللت وسائل الإعلام الموالية للحكومة لحكم قضائي يشكل سابقة ويفتح الباب أمام إعادة تحويل متحف تشورا التاريخي في إسطنبول إلى مسجد. كانت تلك كنيسة بيزنطية يرجع تاريخها إلى القرن الرابع وتحولت إلى مسجد عثماني في العام 1511 ثم إلى متحف تركي في العام 1945، وهو أحد المعالم الكثيرة التي تغير دورها مع تغير هوية آسيا الصغرى من مسيحية إلى إسلامية إلى علمانية. غير أن مصير تشورا ليس مؤكدا حتى الآن؛ فالحكم القضائي يترك القرار في أيدي الرئاسة المعروفة بازدرائها لكل ما هو غير إسلامي. لكن تشورا لا تحظى حقا بنفس المكانة التي تتمتع بها أختها الصغرى آيا صوفيا الأكثر تميزا لدى الرأي العام. جرى تشييد آيا صوفيا في القرن السادس، وتميزت بأكبر قبة بُنيت منذ ما يقرب من ألف عام، حتى تحولت إلى واحد من أروع المساجد في العالم الإسلامي بعد الفتح العثماني لإسطنبول في العام 1453. وكان تحويلها إلى متحف في العام 1935 -تمشيا مع القيم العلمانية للجمهورية الوليدة آنذاك- مثار قلق شديد للمحافظين دينيا في تركيا. ظلت مسألة إعادة تحويلها إلى مسجد مطلبا ينادي به الإسلاميون لعقود من الزمن، وهي الدعوة التي جددها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شهر مارس الماضي. وزاد حضور المصلين بالفعل أكثر فأكثر على مر السنين. وفي العام 2016 جرى تعيين أول إمام لهم منذ 81 سنة، وفي العام الماضي أمَّ أردوغان بنفسه إحدى الصلوات هناك. وبعد مرور شهرين، حضر نحو 2500 من المصلين في يوم واحد لأداء الصلاة. وعقب اكتمال عملية إعادة تحويل آيا صوفيا في نهاية المطاف، ستصبح مسجدا فعليا كغيره من المساجد الأخرى. غير أن هذا الحكم بالأمر الواقع لا يقتصر على محاولات الظهور الرمزي بين الأيديولوجيات المتنافسة فحسب، بل كانت له أيضا نتائج كبيرة ملموسة أبرزها التغيير الكامل لنظام الحكم. فقد تمخض استفتاء دستوري أجري في شهر أبريل من العام 2017 عن إنهاء نظام برلماني أدار البلاد لما يقرب من قرن من الزمان، ليحل محله نظام رئاسي تنفيذي. ومُنح الرئيس سيطرة مباشرة أو غير مباشرة على كل مناحي الدولة تقريبا، بما في ذلك معظم الضوابط والموازين. ولكن بحلول الوقت الذي تم فيه تقنين ذلك عن طريق الاستفتاء، كانت تركيا قد خضعت لهذا النظام بالفعل على مدى سنوات. بل إن رئيس الوزراء التركي آنذاك بن علي يلدريم قال ذلك قبل شهور من الإعلان عن هذا الاستفتاء، إذ أشار إلى أن النظام الرئاسي هو “الوضع الفعلي” القائم في البلاد أصلا وأن الوقت قد حان لتعديل الدستور وفقا لذلك. وبعد التصويت لصالح التعديلات الدستورية بفارق ضئيل في الاستفتاء، الذي أجري في ظل حالة طوارئ قيدت بشدة حملة المعارضة، رد أردوغان على الانتقادات الموجهة إلى النتيجة بمثل قديم يقول “من أمسك بجواده اجتاز بالفعل أُسكُدار (حي في إسطنبول)”. تلك عبارة تعني “ما حدث قد حدث وانتهى”، إنه الأمر الواقع. ومن الزحف العمراني الجامح إلى إجراء تغييرات جذرية في المناهج الدراسية وإصلاح التعليم نفسه، يجد الأتراك أنفسهم مضطرين إلى قبول أن ما حدث قد حدث وانتهى، ويزداد قبولهم لهذا الأمر الواقع يوما بعد يوم. في العام 2014، بنى أردوغان قصرا رئاسيا باهظ التكلفة -تعادل مساحته 58 مرة مساحة البيت الأبيض- على أرض محمية في أنقرة. وقد صدرت أحكام قضائية تقضي بوقف هذا البناء غير القانوني، ورد عليها أردوغان بقوله “فليهدموه إن استطاعوا. لقد أمروا بتعليقه، ولكنهم لا يستطيعون إيقاف هذا البناء. سوف أفتتحه. سأدخله وسأستخدمه”. وبعد مرور خمس سنوات، ها قد بات الآن مقرا للحكومة. الشيء المخزي حقا ليس فقط أنهم لا يأخذون الإذن أبدا، بل كذلك لا يكلفون أنفسهم عناء الاعتذار. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :