من الناس من لا يرتاد المعارض الفنية، إما لأن وضعه الاجتماعي لا يسمح له بالتفكير في غير القوت وسبل الحصول عليه، وإما لأنه لا ينجذب بطبعه إلى الأعمال الفنية، أيا ما تكن المدرسة التي تنتمي إليها، بدعوى أنها معقدة أو عبثية أو غامضة، وفي كل الأحوال لا تمثل الواقع كما يتصوره، ولا تحرك فيه أي إحساس. إذا نظرنا إلى العمل الفني كقطعة جميلة تتوجه إلى حواسنا ومخيالنا، فمن الصعب منطقيا أن نزعم أن العمل الفني لا يترك أثرا فينا، لأنه جعل لكي نتأمله بحواسنا، وهو يتوجه مباشرة إلى حساسيتنا. فمن خلال قوة استثارته للمخيال، كما بين روسو وسبينوزا، يمتلك الفن قدرة مقاربة الواقع بشكل يستدرج مألوفنا اليومي شئنا ذلك أم أبينا، ما يجعل ردة فعلنا أمام عمل فني غير خاضعة لاختيار ما، لأن حساسيتنا هي التي ستتفاعل مع ما يعرض عليها. وحتى إن حاولنا إبداء حكم ذوقي، فإنه سيكون مستندا في أساسه إلى المتعة التي نحس بها عند التواصل مع الأعمال الفنية، كما يقول ديفيد هيوم في كتاب “من المعيار إلى الذوق”. أي أن علاقتنا بالفن تقوم على الحساسية، ولا يمكن تبعا لذلك أن نكون عديمي الإحساس تجاهه. ولا يعني ذلك أن علاقتنا بالفن ذاتية صرف، لأننا إذا حاولنا إبداء حكم ذوقي يتجاوز إحساسنا، ففي ذلك سعي نحو تكوين معيار موضوعي، وحتى حكم كوني. فالحكم الذوقي عند كانْت مثلا له قيمة كونية، لأنه يقوم على “الذوق العام”، أي تلك الملكة التي تجعل كل إنسان حساسا تجاه الفن، وفي كل الأحوال قادرا على أن يكون كذلك، لكون الإحساس كامنا فيه. بيد أن فئة من الناس لا تستهويها الأعمال الفنية، ولا تبدي أي اهتمام بالفن، لأن طبيعة الفن التخييلية تجعل منه نشاطا ذا صبغة خاصة في الواقع، وعديم المنفعة عمليا وفق تقديرهم للحاجات الضرورية التي لا يستقيم العيش من دونها. فما معنى أن يضيّع المرء وقته في تأمل أشياء عديمة الجدوى، وهو ما وصفته حنة أرندت في “أزمة الثقافة” بالفيليستية أي خشونة الذوق، التي تتبدى في رفض الفن جملة وتفصيلا واعتباره عديم الفائدة. بل إن ثمة من يدينه من وجهة نظر أخلاقية، بدعوى ازدرائه المقدسات، أو تشويهه الواقع، أو إمعانه في المسخ والتضليل والإيهام. أولئك يجهلون أن الفن عندما يدعونا إلى التخلص من الواقع والهروب منه إلى عالم الخيال، فإنما الغاية من ورائه أن يخفف عنا ضغط ذلك الواقع وإرغاماته، فلا تكون علاقتنا به ملزمة، مفروضة. ثم إن الوجه التخييلي للعمل الفني لا يعني أنه منقطع عن الواقع، بل هو انعكاس له، لأنه يندرج في حقبة محددة وثقافة معينة، ويملك بعدا جوهريا في ما يسميه هيغل “روح الشعب”. وبالتالي فالفن ليس عملا تخييليا صرفا ولا وسيلة متعة زائدة وإنما هو عنصر جوهري في الثقافة. ويخطئ من ينظر إلى الفن من جهة جدواه وكأنه جزء من الوسائل اليومية التي يتدبر بها الإنسان أمور عيشه، لأنه في الحقيقة يكشف لنا عن الواقع ويرينا ما لا نرى في العادة، أو من زاوية غير التي اعتدنا أن نراه بها، كما بيّن برغسون وكذلك بروست. ومن ثمّ فالفن لا يهدد علاقتنا بالعالم، بل هو يثري تلك العلاقة فيكون عاملا أساسيا في حياة البشر، شرط أن يتأولوه لإدراك معانيه. يقول الفيلسوف الألماني ماركوس غابرييل “ينبغي تأويل العمل الفني لاكتشاف الحقل الدلالي الذي يخلقه وتبيان ما يمثله”. فلا وجود لمبدأ أول، وطريقة واحدة في النظر إلى الأشياء، بل ثمة عدة منطلقات. وفي رأيه أن كل عمل فني يفتح على فضاء من التأويلات لا حصر لها، ولكن دون أن تكون تلك التأويلات ذاتية صرفا لأن ثمة حقائق، وثمة توصيفات أخطأت مرماها، لكون عملية الخلق ليست مطلقة. وفي اعتقاده أن الفن يتجاوز الفكرة الدينية عن اللانهائي، ويذكرنا بأن ثمة عدة لانهائيات، وعدة أنماط عيش واقعية، بل إن تاريخ تطور العقل البشري يمتزج بتاريخ الفن. لقد كان لابتكار فناني النهضة الأفقَ المنظوريَّ أثرٌ كبير على علماء الرياضيات ومقاربتهم للعالم، كما وجهت روايات الخيال العلمي العلم الحديث باقتراح إمكانات غير معروفة. فالفن كما يقول ليس وسيلة ترفيه ولا يهدف فقط إلى بلوغ الجمال كما كان القدماء يعتقدون، ففي حياتنا اليومية نبصر أشياء دون أن نعي أنها تنبثق من خلفية عميقة هي حقل من المعاني، وعندما نقف أمام عمل فني، نتحرر من الفكرة القائلة إننا أمام عالم منظم سلفا وما نحن سوى من يشاهدونه مشاهدة سلبية. قد نفهم دوافع من لا يرتادون المعارض بسبب ظروفهم الاجتماعية، أما أولئك الذين يقاطعونها بدعوى أن الفن غير مجد، فحسبنا أن نؤكد أن الفن “دليل على أن الحياة لا تكفي” بعبارة بيسّوا عن الأدب. وهو ما تناوله الإيطالي نوتشو أوردين في كتابه “جدوى ما لا جدوى له”، حين أحصى المعارف الإنسانية عديمة الفائدة، بالمفهوم المادي القائم على الربح، كالشعر والأدب والفن والموسيقى والفلسفة وعدة علوم لا يستهان بقيمتها، وبيّن أن تلك الأنشطة – غير المجدية في الظاهر – هي التي تخفف عن الإنسان معاناته في عالم يسوده الإرهاق والكآبة. وفي رأيه أن مجتمعا يعجز عن تصور أنشطة خالية من أي غاية نفعيّة هو مجتمع يُحتضَر.
مشاركة :