التأمين الصحي وضمان استدامة الجهود الصحية المعززة للتنمية والاستقرار - د. محمد بن عويض الفايدي

  • 5/15/2015
  • 00:00
  • 39
  • 0
  • 0
news-picture

يشكِّل التأمين الصحي الشامل حجر الزاوية في توفير خدمة صحية ذات كفاءة وفعالية عالية، فصحة الفرد مقياس لقدراته الجسدية والعقلية والنفسية والتي بدورها تحدد حجم إسهامه في بيئته المحلية والمنظومة الدولية، فالأشخاص الأصحاء تزداد فرص مشاركتهم في برامج التنمية، وسيكون لهم تأثير مباشر وغير مباشر في أهداف التنمية المستدامة والمتوازنة، ومستوى الخدمة الصحية المقدمة إليه مؤشر قياس للمتحقق من أهداف ومنجزات التنمية التي محورها الإنسان الذي تتناسب قدراته طردياً مع مستوى الخدمات الطبية التي يحظى بها من مؤسسات الرعاية الصحية، فكلما تلقى خدمات صحية عالية الجودة ارتفعت فرصة وقايته من مخاطر الأمراض والإعاقات والعاهات وزاد معه معدل العمر الافتراضي، وبالتالي ارتفعت إسهاماته في تنفيذ برامج التنمية. يحدد النمط القيادي السائد استخدامه عند القيام بإصدار التوجيهات واتخاذ القرارات مستوى الطموحات المشتركة والنضج القيادي الذي يتمثل في مدى نشاط وحيوية القائد ومرؤوسيه لتحقيق الأهداف. ويبدو أن هذا غير متحقق من قبل في وزارة الصحة بالكفاءة المطلوبة، يعكسه تعاقب عدد من الوزراء على هذه الوزارة خلال الفترة القصيرة الماضية، وتغيير عدد من المساعدين في التشكيل الأخير. يظهر أن من التحديات القيادية التي تواجهها هذه الوزارة عدم التركيز على الأهداف الإستراتيجية طويلة الأجل والاهتمام بالنتائج دون التفاصيل، والمركزية الشديدة، وغياب الرشد في القرارات لعدم الاعتماد على بيانات دقيقة في إصدارها، وتفشي الاتكالية والاعتماد على عناصر محدودة في إنفاذ المهام، وضعف الكفاءة وانخفاض الفاعلية لعدم اختبار القادة والتأكد من توافر خصائص القائد الفعال إلى جانب الخبرة في من يتم اختياره، وعدم فتح قنوات للاتصال وتبادل المعلومات بين القادة، وعدم الرغبة في تنمية وتطوير القادة ببرامج تدريبية مكثفة. في هذا السياق يعتمد تطوير القطاع الصحي السعودي على الإرادة الجادة من القيادة الوزارية الجديدة التي يُنتظر منها تخطي التحديات والعقبات في شغل المناصب القيادية الصحية بتمكين كفاءات قيادية تتخطى تحديات التغيير، وتستبدل القيادات مركزيًا وفي المناطق والمحافظات والمراكز بما يضمن التشغيل الكامل للإمكانات المادية والبشرية، وتحقيق الكفاءة الإنتاجية. تُعد سياسات وبرامج التدريب الوسيلة الأكثر فعالية لرفع مستوى وكفاية الأداء، والأداة الفعالة لتقريب الفجوة بين الأهداف المخططة مسبقاً والمنجزة فعلاً. وتمر وزارة الصحة باختلالات وتشوهات هيكلية في كيانات التدريب وأجهزة تنفيذه، فلم يعد هو رؤية ورسالة وهدفاً مهنياً عن كونه وسيلة للحصول على المستحقات المالية. والذي بدوره يتطلب مراجعة جذرية لمعالجة الاختلالات ومواجهة التشوهات وإعادة النظر في منهجية وسياسات التدريب وآليات تنفيذه، والجهات والمراكز المنفذة لبرامجه وتوحيدها في الجهات الأكاديمية التي تمتلك كفيات تدريبية ومهنية متخصصة تنطلق من تقنيات صحية خاضعة للرقابة من الهيئات الصحية المحلية والدولية. يعكس حجم الضحايا من الأرواح البريئة التي أُزهقت، والأعضاء التي بُترت، والحواس التي فُقدت، وإمكانية الإنجاب التي سُلبت بسبب أخطاء طبية وممارسات خاطئة عدم فاعلية برامج التدريب التي بحاجة إلى معالجة جادة وجذرية، وانحراف التدريب عن أهدافه، والاعتماد في تصميم برامجه على غير الكفاءات المتخصصة، وتنفيذه تحت مظلة غير متخصصة من خلال سماسرة التدريب والمؤسسات الصورية في تنفيذ برامجه. تشير زيادة انتشار المستشفيات والمستوصفات الأهلية «القطاع الطبي الخاص» الذي يعاني من تدهور حاد في الجودة، والرقابة والتقييم والتقويم إلى أن واقع القطاع الطبي العام غير فعال من حيث الانتشار وتقديم الخدمات الصحية للمواطنين على مستوى المناطق والمحافظات والمراكز، وأنه لم يواكب الزيادة في عدد السكان، وأن نسبة الزيادة السنوية في عدد السكان ليست ضمن سياساته وخططه، إذ لم تشاهد على أرض الواقع مسايرة للتوسع والانتشار العمراني في الأحياء السكنية التي بعضها تقادم ولم تحظ بمراكز الرعاية الصحية الأولية، والتي ينبغي أن تسير مع التوسع العمراني والسكاني لتخفيف الضغط على المستوصفات والمستشفيات الحكومية التي تكاد تكون شبه غائبة ويحتاج القائم منها إلى إعادة تقييم وتأهيل ومحورة انتشار يتسق مع مساحة الأحياء وكثافة السكان على مستوى المناطق والمحافظات والمراكز، وتوسيع دائرة المستشفيات التخصصية لتشمل مناطق محورية على مستوى المملكة لتسريع العلاج وتوفير عناء التنقل على المريض وذويه. ينبئ انتشار الصيدليات التجارية الملفت للانتباه بأن هناك انحرافاً واضحاً في واقع الخدمات الصحية من حيث الترخيص لمثل هذا النشاط، وآليات توزيع انتشاره، وتخصيص المواد المتاح تسويقها من خلاله، ووسائل وصلاحيات صرف العلاج، وكفاءة وقدرات الصيادلة الذين مجملهم مقيمون، فضلاً عن سوء تخزين ونقل وتوزيع الأدوية والمستلزمات الطبية وتدني مستوى بعض شركات المصنعة، وانخفاض مستوى الرقابة عليها. ويحدث أن بعض الأدوية قد لا يُعلن عن حجم الضرر الصحي الناجم عن استخدامها إلا بعد أعوام من تداولها، والذي قد يؤثر على أجيال كاملة، خصوصاً أدوية وحليب الأطفال، ويحد من الإنتاجية أو يمكن أن يُحدث أشكالاً من الانحرافات. إن التفكير في جمع شتات الجهود الصحية المبعثرة عبر مرافق مدنية وعسكرية مختلفة أمر أصبح واجب النظر، لتوحيد الجهود وتعظيم الاستفادة من الموارد المالية والبشرية والتجهيزات والمعدات والتقنيات والمرافق الطبية، ولبسط عملية المتابعة والرقابة والتقييم والتقويم, وخفض فرص التجاوزات في الصفقات وإرساء المشروعات وتأمين المستلزمات الطبية. وعلى الإستراتيجية الصحية السعودية أن تستجيب لهذا من أجل مواجهة المخاطر الصحية التقليدية والمخاطر الحرجة ذات الصلة بالإمراض الخطرة والمستحدثة وتقنيات علاجها والأجهزة والمختبرات النوعية اللازمة لها، ومستوى التأهيل والتدريب للكوادر البشرية التي ستتعامل مع تحدياتها, إضافة إلى تحديات الحروب والحاجات الصحية الناجمة عنها. ومن الأهمية بمكان لمواجهة هذه التحديات الصحية الضخمة أن تنضوي الخدمات الصحية كافة تحت مظلة وطنية موحدة تتمثل في وزارة الصحة لتوحيد الجهود وتكامل عمليات التخطيط والتنظيم والتنسيق والتوجيه والقيادة والرقابة والتقييم والتقويم، وتوجيه وتخصيص وضبط الموارد المادية والبشرية ورفع الكفاءة التشغيلية والإنتاجية للخدمات الصحية على المستوى الوطني. تشكل بعض الأمراض التي يمكن أن تنتشر في موسم الحج والعمرة والزيارة، وما تحمله بعض الجنسيات من أمراض خصوصاً القادمين من القارة الإفريقية التي ينتشر فيها مرض إيبولا، إضافة إلى بعض الإصابات بفيروس كورونا الذي يزداد انتشاره مع الازدحام تحديًا مركبًا للإستراتيجية الصحية السعودية، يتطلب رؤية غير تقليدية لرفع درجات الوقاية وأساليب المعالجة. النموذج الإداري والسلوك الإداري السائد في وزارة الصحة لم يرتق بالمعايير والضوابط في إرساء العطاءات وتوريد المعدات والتجهيزات الطبية والأدوية ويتجاوز المنافع المادية من وراء إرسائها على جهة دون أخرى، والذي بدوره يحتاج لمراجعة جوهرية في مكوناته وأدواته، قد تكون ضمن أولويات معالي وزير الصحة الجديد المهندس خالد بن عبدالعزيز الفالح الذي قد تُحدث تجربته الثرية من خلال شركة أرامكو العملاقة إذا ما فُعلت نقلة نوعية في القطاع الصحي السعودي. تصل نسبة تغطية إجمالي السكان بالتأمين الصحي إلى نحو (100%) في بعض الدول مثل السويد والدانمارك ونيوزيلندا وبريطانيا وإسبانيا وسنغافورة واليابان. وفي هذا السياق يُعد التأمين الصحي في المملكة آخذاً في النمو، إلا أن تغطيته للمواطنين لم تزل محدودة بالمقارنة ببعض الدول المتقدمة. يحتل النظام الطبي الفرنسي مكانة مرموقة بين نظم العالم المتقدم ويمكن الاستناد إليه كنموذج لإحداث نقلة نوعية في الخدمات الصحية السعودية لما يوفره من خدمات صحية متكاملة ذات جودة تشمل الفئات كافة ضمن منظومة متدرجة من شأنها الرفع من جودة وشمولية وكفاءة الخدمات الصحية بما يعكس تطلعات القيادة السعودية الجديدة والتنظيمات الإدارية الحديثة التي واكبتها. تبني حلول إبداعية لمعالجة تحديات الخدمات الطبية في المملكة يمكن أن يستند إلى قرار مباشر يجمع شتات ما في الإرشيف من رؤى سابقة تنصب حول التأمين الصحي وآليات تطبيقه إذا ما اتجهت الرغبة إلى تجاوز التداخل والتعقد في مشكلاته التراكمية التي قد يمتد البحث في تخطيها إلى زمن أطول، ويمكن تخطيها بالمنهجية التي تستند إليها أكثر الدول تقدماً المتمثلة في التأمين الصحي الشامل، والذي نجاحه مرهون بتكثيف التوعية بمميزاته عبر مؤسسات المجتمع الدينية والإعلامية والثقافية والاجتماعية، والقدرة على اختيار ما هو أكثر ملاءمة للواقع الصحي في المجتمع السعودي، ومن ثم ضمان الجودة والدقة في التنفيذ والمتابعة والتقييم والتقويم، والإشراف على مراحله كافة بمهنية صارمة، باعتباره الأسلوب الأمثل لتخطي المعوقات وتجاوز التحديات التي تواجه الوضع الصحي غير المعافى في المملكة الذي بحاجة إلى معالجة غير تقليدية تلبي تطلع القيادة الجديدة الساعية إلى كسر الجمود في معالجة التحديات وتجاوز العقبات بممارسات قيادية واعية ينشدها المواطن وتتطلع إليها الحكومة.

مشاركة :