تشهد ماليزيا نقلة نوعية في التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، وذلك بفضل توظيف البحث العلمي في حشد وتعظيم العائد من الموارد المتاحة، والتحول من التخطيط التقليدي إلى التخطيط السلوكي الذي يعتمد على المسارات الاستراتيجية التي تستجيب للتحولات المفاجئة بمنهجية مرنة تتعامل مع كافة المتغيرات بمهارة تتبع وتحاكي سلوك الأنشطة المختلفة وتحفزها. أدركت الحكومة الماليزية دور مراكز البحث والتطوير في تحفيز عناصر الإنتاج، وتهيئة الأيدي العاملة ذات المستوى الرفيع، وعملت على دعم ذلك التوجه من خلال عدد من الإجراءات منها إنشاء وزارة العلوم والتقنية والابتكار في عام 1973م لتكثيف الجهود الحكومية لتطوير العلوم والتقنية كوسيلة لتوليد المعرفة وتحسين نوعية الحياة من خلال التنمية المستدامة. تهدف هذه الوزارة إلى تعزيز الفهم والوعي بأهمية العلوم والتقنية، ودعم وتشجيع الأبحاث والتطوير (RالجزيرةD)، والمحافظة على البيئة وتقديم خدمات إدارية وفنية في مجالات العلوم والتقنية، وإعداد الخطط الوطنية للعلوم والتقنية ورسم السياسات، وتعزيز الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص في مجال تمويل البحث والتطوير. ومن أهم الإدارات والمجالس التابعة لهذه الوزارة مجلس الطاقة الذرية، وإدارة الكيمياء، وإدارة المقاييس الماليزية، وخدمات الأرصاد الماليزية، ووكالة الفضاء الماليزية، ومركز معلومات العلوم والتقنية، ووحدة تطوير الأعمال (وهي تُعد بمثابة مركز للخدمات الشاملة لتسريع نقل التقنية والاستفادة من RالجزيرةD)، ووحدة تقنية المعلومات. يجري في ماليزيا توجيه سياسات العلوم والتقنية عن طريق السياسة الوطنية للعلوم والتقنية (إس تي بي 1 و 2)، وتنمية التقنية الصناعية خطة العمل الوطنية (تي أيه بي). وتقوم مجموعة الصناعات الماليزية عالية التقنية (إم آي جي إتش تي) بتشجيع مشاركة القطاع الخاص في أنشطة البحث والتطوير. وتتم إدارة مجموعة الصناعات الماليزية عالية التقنية عبر مجموعة ذات سلطة عالية تحت رئاسة مشتركة من كلاً من شخصية ماليزية بارزة في الأعمال التجارية ومستشار إدارة رئيس الوزراء للعلوم، والأعضاء الآخرون هم رؤساء الشركات الصناعية الماليزية والمدراء التنفيذيين للمؤسسات التي لها علاقة بالتقنية من القطاع العام والوزارات الحكومية والجهات الحكومية الأخرى ذات الأهمية . تهدف ماليزيا إلى زيادة نسبة الإنفاق المحلي الإجمالي على الأبحاث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي إلى (1.5%). ويقدم القطاع الخاص الماليزي أكبر حصة من الدعم المالي من أجل البحث والتطوير، ويُوزع إنفاق الشركات المحلية على الأبحاث والتطوير على شريحة واسعة من الصناعات. ولم يزل هنالك اعتماد كبير على إمكانية البحث والتطوير الأجنبي الذي يظهر من خلال العدد الكبير لنشاطات الأبحاث والتطوير القادمة من الخارج. يمكن إجمال التجربة الماليزية للبحث والتطوير في محورين: المحور الأول: التنظيم المؤسسي تم استحداث منصب المستشار العلمي في مكتب رئيس الوزراء عام 1982م، وذلك لحث النمو الاقتصادي من خلال العلوم والتقنية. ويقدم المستشار العلمي تقاريره إلى رئيس الوزراء مباشرة ولكنه إدارياً يتبع للسكرتير الأول للحكومة. يُعد المستشار العلمي الرئيس المشترك لمجموعة الصناعات الماليزية عالية التقنية العائدة للقطاع العام كالأجهزة القانونية، والأكاديمية الماليزية للعلوم، والشركات التي تمتلكها الحكومة، والتقنية الفضائية، والمعهد الماليزي للنظم الإلكترونية الدقيقة الذي هو عبارة عن منظمة رائدة تعمل في مجال البحث والتطوير وتتخصص في تقنية المعلومات والاتصالات والإلكترونيات الدقيقة وهي منظمة مملوكة من قبل الحكومة، وتسعى هذه المنظمة نحو عمل البحث والتطوير الاستكشافي في المجال الصناعي من خلال الشراكة مع الجامعات، ومعاهد البحوث والمنظمات الحكومية ورواد الصناعة، وتعتمد في تمويلها بشكل رئيس على منح التنمية الحكومية والمتعاونين وأجور عقود البحث. تشتمل المنظومة البحثية الماليزية على عدد من المعاهد والشركات والمراكز البحثية والتعليم العالي من أبرزها: 1 - المعهد الماليزي للمقاييس والأبحاث الصناعية هو معهد عام للبحث والتطوير متعدد التخصصات، وجهة رائدة توفر الحلول الصناعية على أساس معرفي. وأدى نجاح مشروع الحاضنات التابع للمعهد إلى اتساع أنشطته التي ما لبثت أن امتدت إلى ثمانية مكاتب إقليمية موزعة في أنحاء ماليزيا. وتؤكد مشاريع الحاضنات الإقليمية على الحاجة إلى تطوير ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة بما يتوافق مع خطط التنمية الوطنية. 2 - الشركة الماليزية لحدائق التقنية تكمن مسؤولية الشركة الماليزية لحدائق التقنية في توفير تجهيزات أساسية من الدرجة الأولى وخدمات للابتكار التقني والبحث والتطوير وذلك بهدف تمكين الشركات المنشئة على أسس معرفية من النمو والمنافسة في السوق العالمية. وذلك من خلال تأجير أرض مخصصة للبحث والتطوير على الشركات الفردية لكي تقوم بإنشاء مكاتب مصممة وفقاً لرغبة العملاء، مرافق للبحث، ومواقع اختبار ونحوها، بمساحة تصل إلى (750) هكتار تشمل المرحلة الأولى 12 مبنى على أحدث تصميم بوظائف معينة مصممة لتلبية الحاجات المادية للشركات عالية التقنية، بحيث تمكنها من أن تصبح مزودة للخدمات لمشروع الوادي العظيم للوسائط المتعددة، وبقية ماليزيا والعالم. 3 - شركة تطوير الوسائط المتعددة مشروع الوادي العظيم للوسائط المتعددة هو عبارة عن مساحة مخصصة تبلغ (15 X 50كم) تمتد من برجي بترونا في الشمال حتى مطار كوالالمبور الدولي في الجنوب ممثلاً البادرة الأبرز عالمياً لماليزيا في مجال صناعة تقنية المعلومات والاتصالات. تم وضع تصور لهذا المشروع عام 1996م وأصبح مشروع الوادي العظيم للوسائط المتعددة الآن محولاً ديناميكياً لتقنية المعلومات والاتصالات, حيث يضم أكثر من (900) شركة منها شركات متعددة الجنسيات، وشركات أجنبية، وشركات ماليزية، تركز على منتجات الوسائط المتعددة والاتصالات والخدمات والبحث والتطوير. وبوجود هذه المرافق تستمر ماليزيا بجذب الشركات العالمية الرائدة في مجال تقنية المعلومات لوضع صناعاتها ضمن مشروع الوادي العظيم للوسائط المتعددة والشروع في الأبحاث وتطوير منتجات وتقنيات جديدة وتصديرها من هذه القاعدة. يعد مشروع الوادي العظيم للوسائط المتعددة بيئة مثالية لنمو المشروعات الصغيرة والمتوسطة في مجال تقنية المعلومات والاتصالات بحيث تطور نفسها إلى شركات ذات تصنيف عالمي. وتم وضع ثلاث مراحل للتنفيذ الكامل لمشروع الوادي العظيم للوسائط المتعددة من عام 1996-2020م. 4 - الشركات غير الحكومية: أ- مجموعة الصناعات الماليزية عالية التقنية تم إطلاق مجموعة الصناعات الماليزية عالية التقنية عام 1993م بصفتها شركة غير ربحية ويديرها مجموعة رفيعة المستوى تحت الرئاسة المشتركة ما بين شخصية ماليزية اقتصادية بارزة والمستشار العلمي التابع لمكتب رئيس الوزراء. أما بقية الأعضاء فهم مدراء الشركات الماليزية الصناعية. والمدراء التنفيذيون لمنظمات تكنولوجية ذات علاقة من القطاع العام. ب- الشركة الماليزية لتطوير التقنية تهدف الشركة الماليزية لتطوير التقنية لإجراء الأبحاث على أسس تجارية من خلال تحويل الأفكار إلى منتجات قابلة للتسويق من خلال توفير رأس المال المغامر. ج- المركز الوطني للابتكار يعتبر المركز الوطني للابتكار مبادرة دعت إليها وزارة العلوم والتقنية والابتكار بهدف إيصال البرامج التي تعزز الاستثمار الماليزي في البحث والتطوير على أسس تجارية. ويعمل المركز الوطني للابتكار من خلال أنشطته المشتركة الرئيسة على ترجمة نتائج الأبحاث إلى منتجات وعمليات تجارية بشكل رئيس عن طريق تسهيل نقل العمليات التقنية الأصيلة إلى المشاريع الماليزية، وإيجاد المنتجات الجانبية من الأبحاث العامة في ماليزيا، وإحداث منبر تجاري للربط بين المجتمع الأكاديمي، ومجتمع الأعمال، وصناع السياسات، وتوفير المتطلبات التكميلية ونقل المهارات لرجال الأعمال والباحثين. تدعيماً لهذا الاتجاه فإنه قد تم توجيه أهداف مجموعة البرامج الأولى نحو بناء شبكات وطنية تربط بين الأنشطة التجارية المتفرقة. أما المجموعة الثانية من البرامج فتهدف إلى تحديث مجموعة المهارات التجارية للأفراد المشاركين في هذه العملية. يهدف البرنامج الثالث إلى توفير نموذج رائد في الابتكار والأسس التجارية عن طريق جمع المعلومات، والنشر، والبحث الدقيق. 5 - التعليم العالي أصبحت الجامعات الماليزية الوطنية ميداناً واسعاً للدراسات العليا من خلال إنشاء كليات الدراسات العليا. وبالتالي بدأت الحصول على تمويل أكبر لدعم طلاب الدراسات العليا وتمييزهم عن طلاب الدراسات الجامعية. كما تم تطبيق مبدأ التميز بين الجامعات بإعادة تنظيم ودمج الجامعات الوطنية لتتحول إلى «هيئات الجامعات الوطنية»، وإخضاعها إلى المعاير الدولية من خلال المشاركة الدولية في عمليات التقييم لزيادة قوتها التنافسية في البحث والتطوير محلياً ودولياً. المحور الثاني: تمويل البحث والتطوير في ماليزيا قدمت الحكومة الماليزية مبادرات وآليات عديدة في سبيل تطوير تنمية البحث والتطوير مثلاً من خلال المنح والقروض والحوافز وذلك لتطوير ودعم البحث ضمن القطاع العام إضافة إلى تشجيع زيادة استثمار القطاع الخاص في التقنيات الجديدة. تسعى الحكومة من خلال توفير المنح نحو دعم أنشطة البحث والتطوير وتوزيع نتائج الأبحاث على أسس تجارية في مجالات معينة تحظى بالاهتمام على المستوى الوطني. وتقع مسؤولية تنمية وتقييم آليات المنح على عاتق المجلس الوطني للبحث العلمي والتطوير التابع لوزارة العلوم والتقنية والابتكار الماليزية، ومن أبرزها: - مشروع المنح الصناعي للبحث والتطوير: الهدف من هذا المشروع هو زيادة البحث والتطوير في القطاع الخاص ورفع مستوى التعاون والتقارب بين القطاع الخاص ومؤسسات البحث العامة والجامعات التابعة للقطاع العام من خلال العلاقة التضامنية. - مشروع منح البحث والتطوير التابع لمشروع الوادي العظيم: يهدف هذا المشروع إلى مساعدة الشركات المحلية الابتكارية بما في ذلك المشاريع المشتركة على تطوير تقنيات وتطبيقات الوسائط المتعددة والتي بدورها ستسهم بشكل عام في تطوير مشروع الوادي العظيم. وتعتبر الشركات التي في مستوى الشركات العامة في مشروع الوادي العظيم والتي يصل نسبة الجانب الماليزي منها (51%) هي الشركات المؤهلة للحصول على المنح. - مشروع منح التطبيقات العملية: غاية هذا المشروع هو دعم نمو الابتكارات من القاعدة إلى القمة والتي تتسم بتصميم محلي وتتضمن محتوى محلي وتربية ثقافية محلية لكي تلبي متطلبات المجتمع الماليزي. والشركات المسجلة محلياً والتي يبلغ الجانب الماليزي نسبة (51%)، أو مملوكة بالكامل من قبل مواطنين هي المؤهلة للحصول على المنح. إضافة إلى ذلك يتم أيضاً توفير المحفزات وذلك عن طريق مجلس الإيرادات المحلية، والهيئة الماليزية لتنمية الصناعة، التي توفر الاعتمادات المالية للقطاع الخاص بما في ذلك مؤسسات الرأسمال المغامر والبنوك. يعد تمويل رأس المال المغامر مصدر تمويل بديل ابتكاري في ماليزيا ذا أهمية متزايدة. ويميل تمويل الرأس مال المغامر غالباً إلى التركيز على الشركات في مراحلها الأولى ومرحلة التوسع والمرحلة المتوسطة. تقوم وزارة العلوم والتقنية في ماليزيا بالاهتمام بأنشطة البحث والتطوير كوسيلة لتوليد المعرفة وتحسين نوعية الحياة. وذلك من خلال العديد من الإدارات والمجالس التابعة لهذه الوزارة. وعلى الرغم من اختلاف المستوى التنظيمي بين المملكة وماليزيا، إلا أن نظام مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية أوكل إليها القيام بمهام أنشطة البحث والتطوير وذلك عن طريق مجموعة من المعاهد البحثية المتخصصة في مجالات متعددة، إلا أنها لم تنمو وتدفع بالصناعات كما هو الحال في ماليزيا التي تسير وفق استراتيجية متنامية نحو العالم الصناعي الأول، الذي يعد محل آمال وتطلعات المواطن السعودي. تواجه الحكومة الماليزية جملة من التحديات من أبرزها إثارة تهم الفساد وإلصاقها بالجهاز التنفيذي للدولة لإعاقة التقدم العلمي والتطور التقني الذي تشهده ماليزيا بواسطة القوى المعادية والتنظيمات الإرهابية المقرضة، وذلك بالترويج لتهم ممارسة السلطة التنفيذية للفساد، والتي من آخرها اتهام رئيس الوزراء الماليزي نجيب عبدالرزاق من بتهمة الفساد المالي، الذي تم تبرئته من تلك التهمة. تشارك الدولة القطاع الخاص في ماليزيا الإنفاق على البحث والتطوير، ويقدم القطاع الخاص الماليزي أكبر حصة من الدعم المالي من أجل البحث والتطوير، ويُوزع إنفاق الشركات المحلية على الأبحاث والتطوير على شريحة واسعة من الصناعات، أما بالنسبة للمملكة فالإنفاق الحكومي هو الممول الرئيس لأنشطة البحث العلمي، ويعتبر إسهام القطاع الخاص محدودًا للغاية في تمويل وتنفيذ أنشطة البحث والتطوير للاعتقاد السائد أن العائد الربحي من ورائه بعيد الأجل وغير مباشر وقد تستفيد منه جهات منافسة، كما أن دور الوقف الخيري وأوجه إنفاق البر تبدو معطلة في مجال البحث والتطوير. تنامي التحديات والمخاطر المركبة التي أفرزتها الحروب والصراعات الإقليمية التي أثقلت النظام الدفاعي والأمني، فضلًا عن إجراءات مكافحة الإرهاب خاصة في مجال التقنية والحصانة الفكرية التي تستوجب تنويع مصادر تمويل أنشطة البحث والتطوير وتفعيل آلياته، وإقامة شراكة بحثية فعلية بين دول مجلس التعاون الخليجي، لتوسيع دائرة تمويل القطاع الخاص لأنشطة البحث العلمي والتطوير التقني، وزيادة فرص الاستفادة من مخرجات مراكز البحث والتطوير بين دول المجلس لضمان استدامة التنمية، وترسيخ الاستقرار.
مشاركة :