تُعد "دائرة الطابشير القوقازية" واحدة من أهم مسرحيات الكاتب الألماني برتولد برخت، لما تمثله من تأسيس لنمط المسرح الملحمي الذي اعتمده "بريخت" في أعماله اللاحقة. فجوهر القصة يتمحور حول أم حقيقية (الملكة) وأخرى خادمة، يتصارعان في ساحة المحكمة لإثبات أحقية كل منهما في أمومة طفل، أمر القاضي أن يضعه داخل دائرة طباشيرية وطلب من المرأتين بجذب الطفل خارج الدائرة، ومن تنجح منهن تحصل على أحقية رعياته. تنتهي الأحداث بانتصار الأم (الملكة) التي جاهدت في جذب ابنها من خارج الدائرة بينما الخادمة الأكثر رأفة وحناناً لم تستطع فعل ذلك خشية من أن يؤذى الصغير. وهنا رأى القاضي أن الأم الخادمة كانت أكثر حنانا من أمه الحقيقة، التي تعاملت مع الأمر بلغة القوة والقسوة، فحكم للخادمة برعاية الطفل.هذا المقدمة كانت تمهيد لمحاولة قراءة الفيلم التونسي "بيك نعيش" للمخرج مهدي برصاوي، الذي أفتتح أمس عروض مسابقة "أفاق السينما العربية" بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الـ41. يتطرق الفيلم إلى العديد من الأسئلة والقضايا التي تتماس في جوهرها مع الخاص والعام، من بينها السؤال الأساسي لمحور القصة، من هو الأب الحقيقي؟ هل هو الأب البيولوجي؟ أم هو الذي يمنح الحب والرعاية؟ وكيف تنعكس هذه الأفكار على الأسرة في ظل العيش داخل كنف مجتمع شرقي محافظ؟أحداث الفيلم تدور في الجنوب التونسي في عام 2011 عقب مرور عدة أشهر على الحراك الشعبي التونسي والإطاحة بالرئيس "بن علي"، حول زوجين فارس، يجسده سامي بوعجيلة، ومريم، تؤديها نجلاء عبد الله، يتعرضان خلال عودتهما من رحلة العطلة لحادث إطلاق نار عشوائي من جانب مجموعة من المسلحين يتعرض خلاله الأبن (عزيز) لإصابات بالغة في الكبد ينقل على إثرها للمستشفى.القسم الثاني من الفيلم والذي تدور معظم أحداثه في المستشفى يستمر معنا حتى الأمتار الأخيرة من النهاية ويشهد الكثير من التحولات والتغييرات في علاقة الشخصيات ببعضها البعض، خاصة عقب أن اكتشف (فارس) أن (عزيز) ليس ابنه بالدم، بعدما أجرى فحوصات طبية تمهيدا لإجراء زراعة كبد. لتنشأ أزمة تتطور أبعادها تدريجيا طوال الأحداث سواء من الرغبة في الانتصار لقيم الإنسانية على حساب رابط الدم، أو معرفة مدى تغلغل الإرث الثقافي العربي فينا في ظل انتماء الزوجين لثقافات غربية.ويخرج السيناريو، الذي عمل عليه "برصاوي" طيلة 4 سنوات، من الخاص إلى العام بكل سلاسة كاشفا عن أفكار وقضايا لا تتعلق بمصير الأسرة التي انهارت وحسب، لكنه يتعرض لأخرى أوسع تتعلق بالشأن الداخلي في تونس كفساد المنظومة الصحية ومافيا الإتجار بالأعضاء البشرية والتراجع الهائل الذي أصبحت عليه دولا أخرى كليبيا، التي يصورها الفيلم كمركز حيوي للإتجار بالأطفال وتهريبهم عبر الحدود للاستيلاء على أعضائهم الحيوية، ليجد (فارس) نفسه أمامه اختيارات قاسية تتعلق بمقايضة حياة ابنه بحياة آخر بريء.فيلم "بيك نعيش" للمخرج مهدي برصاوي، يكتسب أهميته من الانتصار للقيم الأخلاقية والإنسانية التي تكتسب قيمتها من الروابط والعلاقات التي يحكمها الحب والإخلاص لا الدم. طارحا عددا من القضايا التي تؤكد أن فكرة الثورة لا تصنع التغيير إن لم يكن المجتمع مستعداً للتصالح مع الذات ونبذ الفساد.
مشاركة :