ولتبقى حتى هذه اللحظة تشاغب خلايا الذاكرة كلما طفر في البال تمر الذكرى الحادية عشرة على رحيل الفنان الكويتي الخليجي علي المفيدي وكما لو أنها تمعن في تأكيد وجوده الحي الحاضر المؤثر فينا حتى هذه اللحظة، أو كما لو أنني أتنبه في حين غفلة مني إلى ضحكته المنحشرة في غرفة حنجرته المشبعة ببقايا تبغ قديم وهي تقاوم أنفاس رئته لتعلن قدرتها على النفاذ في كل أرجاء المكان الذي يتواجد فيه ولتبقى حتى هذه اللحظة تشاغب خلايا الذاكرة كلما طفر في البال اسمه أو موقف من مواقفه الهزلية المعتادة في حياته اليومية. هي الضحكة ذاتها التي جذبت وشدت أذنيّ في أول محاضرة أتلقاها من أستاذنا الدكتور إبراهيم سكر في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 76، لأعرف وأتأكد جيدًا بأن الفنان الكبير علي المفيدي يقيم معنا في هذا المعهد للدراسة الأكاديمية قسم التمثيل والإخراج قبل أن أراه مباشرة ووجهًا لوجه بعد المحاضرة وهو منهمك وبشغف في لعبة تنس الطاولة في أحد أروقة المعهد مع زملائه الفنانين من أمثال الفنان البحريني قحطان القحطاني وشرده الشريده وغيرهم. هذه الضحكة تبدت لي وكما لو أنها رسمت وشكلت روح المفيدي الفنية وانعكست على كل تفاصيل تقاسيمه الأدائية الدقيقة المتعددة والنادرة والفريدة، فبحجم ضحكته وتلونها التبغي المتقطع المتحشرج كان صوته وكانت أدواره وكانت حركته وكانت سخريته وكانت أشكاله الغرائبية التي وكما لو أنها جزءا لا يتجزأ من شخصيته الحياتية العامة. هو الفنان الذي لا يشبهه أحد، ولكن كل الأدوار التي يؤديها تتمنى كلها أن تشبهه، وخاصة الأدوار المركبة والغرائبية التي قدمها للمسرح والشاشة، فهو فنان يتملك طاقة أدائية هائلة واستثنائية، وأجزم أنه حين يقف أمام من وسمتهم الشهرة قبله من الفنانين الكويتيين، يضعون ألف حساب وحساب وهم يؤدون أدوارهم أمام هذا الفنان، خاصة وأنه حين يؤدي أدواره يبدو أن كل هذه الأدوار قد سكنته قبل أن يؤديها وقبل أن يذهب إلى الاجتهاد في إتقانها. وحين تتأمل وجه المفيدي الغرائبي، ينتابك شعور بأن كل طاقته الجسدية والأدائية قد تمركزت فيه وأصبحت بؤرة اهتمام من يؤدي أدواره معه أو من يشاهده وهو يؤدي أدواره ، فوجهه يشبه وجه (الوشق) وجمجمته، فهو وجه صغير ولكنه لافت مشع بكل تفاصيله الدقيقة الحادة، بدءًا من عينيه التي لا تحتاج إلى جحوظ كي تلفت نظر من يواجهها والتي فيها تكمن شرارات القوة والحدة والخبث والمخاتلة والريبة، وكما لو أنه يوشك أن يكون الفنان الخليجي الوحيد الذي تشمخ قامته من خلال أدائه بعينيه، وبجانب هذه العين وجنتان تعلو عظمتا فكيهما حتى العينين وترتخي بالجوار من شفتيه الناتئتين اللتين تتكآن على فك مفصل التواصل بين الفكين العلويين والعينين واللتين تشرق بينهما أسنان موميائية يتشكل الرعب وكل انفعال غريب بينها، حسب طبيعة الأداء المسند لشخصيته، ولعل ما يجعل المفيدي أقرب لهذا الوشق البري هو أن هذا الوجه بهذه الجمجمة يتسقان بكامل هيئته الجسدية وغير متنافرين معها إلا بما يقتضيه الدور الذي يؤديه. هذا الفنان الوشق، الإنساني إلى أبعد الحدود، بالرغم من المفارقة الطبيعية بين هذه الإنسانية وموحيات هيئته، والذي للأسف الشديد لم يولِ نقادنا الخليجيين اهتمامًا به أو بأدواره، مثلما وقفوا كثيرًا وأولوا فنانين آخرين غيره هذا الاهتمام، وللأسف من منظور ومن منطلق الأسماء والشهرة ليس إلا، رغم أننا لسنا بحاجة إلى أن نقف عند هذه الشهرة ونحن نتحدث عن المفيدي، كونه أحد أهم الأسماء اللامعة في مسرحنا وفي شاشتنا الخليجيين، هذا الفنان تمكن من أن يكون (ياغو) مسرحنا والدراما التلفزيونية في الخليج، والذي لم يلعب مثله كثير من الفنانين وحتى يومنا هذا هذا الدور مثلما لعبه المفيدي والذي اكتنز بقدرة مغايرة ولافتة في أدائه له وربما في أكثر من دور مسرحي أو تلفزيوني، وأعماله طبعا لا تحصى ولا تعد، كما أنه قام بأداء أكثر الأدوار غرائبية ودموية وكان بارزًا فيها وحاضرًا بقوة، ويكفيك من كل ذلك أن تلحظ ردود أفعال من يشاهده ويتابعه والتي لا يمكن أن تنسى هذا الوجه المكتنز بحنجرة هيأت لها كل الممكنات الفيزيقية لأن تكون كذلك، وهو الإنسان المغلوب على أمره والزوج الخبيث ومدير المكتب المحتال والنصاب، وهو الخال الخبيث والمراوغ، هو الذي تتعدد فيه كل الأدوار وتعشقه ، ويندر أن يكون هناك ممثل في خليجنا العربي أن قام بهذا الزخم من التنوع الأدائي الذي قام بأدائه الفنان المفيدي جوكر المسرح والدراما التلفزيونية الخليجية. هذا إذا ما وقفنا على أدواره الكارتونية أو الكاريكاتورية، إذ يندر أن تجد فنانًا يقوم بمثل هذه الأدوار دون أن يرتدي قناع أو يستعير صوتًا أو شخصية تساعده على أداء مثل هذه الأدوار، إذ المفيدي تساعده كل مؤهلاته الفنية والجسدية لأن يكون كاريزما محببة وفريدة ولافتة في أدواره وكما لو أنه في الحياة، فهو الشخصية الكارتونية التي توشك وحدها أن تؤدي مثل هذه الأدوار دون قناع ، لأن وجهه وطاقته الأدائية الهائلة بشكل عام تتعدد فيها الأقنعة دون أن يرتديها، فكل الكاركترات الكاركترات تحب المفيدي وهو من يضفي إليها روحًا دون أن يقصدها. كما أن أداؤه لشخصية شاعر الكويت فهد العسكر، والذي يأتي مدعمًا ومعززًا بثقافة أدائية مميزة صقلت المفيدي وجلّت شخصيته من خلال الأدوار التي قدمها باللغة الفصحى بإذاعة الكويت وخاصة نافذة التاريخ، يأتي هذا الأداء متماهيًا مع شخصية العسكر الشاعر الكويتي التنويري السابق لعصره والمتمرد على تقاليده المحافظة والذي ظلمه التاريخ فعاش ومات بائسًا ومنبوذًا كحال مبدعين غيره، وليستقر هذا الدور في ذاكرة الكويت وذاكرتنا الخليجية حتى أزمنة قادمة. المفيدي يوشك أن يكون الوحيد بين فنانينا الخليجيين الذي لعب أدوارًا تجاوزت النوع الواحد، كالكوميديا أو التراجيديا، هو فارس في كل الأدوار والأنواع الأدائية، بل أن شخصيته تستحق أن تدرس في أكاديمياتنا المسرحية والتلفزيونية، إذ ينتابك شعور بأن هذا الكائن الوشقي الوجه والجمجمة، وأعني بالوشق أيضا خاصية أخرى وهي أنه وحده من بين الحيوانات القططية التي لا تعرف بالضبط مصدر صوته وربما قوته، ينتابك شعور بأن الأعمال المسرحية والتلفزيونية تبدو دون المفيدي ناقصة، وما أكثر الأدوار التي تمنت هي لحظتها أن تكون في حوزة المفيدي الأدائية، خاصة وأنه يتمتع بخبرة نادرة في أداء أصعب الأدوار وأكثرها تركيبًا، والأدوار التي شاهدتها له طالبا بالمعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت شاهدة هي أيضا على ما أذهب إليه، وهي ليست شهادتي وحدي فحسب، بل ربما شهادة كبار الأساتذة الذين درسوا لنا بالمعهد. الفنان الكبير علي المفيدي رحمة الله عليه، فنان قلَّ أن يجود الزمن بمثله في مسرحنا والدراما التلفزيونية في خليجنا العربي، لذا ينبغي الوقوف مليا أمام هذه القامة الشامخة ما بقي لهذا المسرح والدراما التلفزيونية روح وحياة، ولنا أسوة وأمل في ابنيه الفنانين القديرين حسين وخالد بأن يساهما في حفظ مكانة وسيرة هذا الفنان المبدع بين أبناء جيلهما والأجيال القادمة.
مشاركة :