ضاعفت الاحتجاجات المشتعلة في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدا في لبنان والعراق، وكذلك الانسداد السياسي في تونس، حصيلة المباحث التي تتوق إلى إدراك حقيقة فشل هذه الدول في السير نحو تركيز الديمقراطية المكتملة والمباشرة باقتراب وقوعها شيئا فشيئا في مستنقع ديمقراطية المحاصصة. تثور الجموع في شوارع بغداد وكربلاء والبصرة وكل المدن العراقية تقريبا، كما تنتفض شوارع بيروت وطرابلس ومدن كثيرة في لبنان، وينتاب التونسيون الذين خرجوا مؤخرا لانتخاب ممثليهم في البرلمان والسلطة التنفيذية، ويمكن أن نضيف إلى القائمة ما يجري في ليبيا والجزائر، إذا اعتبرنا أن إسقاط النظام مطلب شعبي وتحقيقه تطبيق لـ”الديمقراطية”. لا فرق بين ما يحصل في بغداد وبيروت وما يحصل في تونس، فبمجرّد متابعة المحطات التلفزيونية أو الصحف والمجلات والراديوهات التابعة لهذه الدول، ينتاب المتابع شعورا يؤكّد للوهلة الأولى له أن هذه الدول قد نجحت فعلا في تركيز مسار ديمقراطي يحق للجميع فيه أن يعبّر بحرية، إذن لماذا تحتج شعوب هذه البلدان التي تبدو متحرّرة. عند وقوع أي أزمة سياسية، في هذه البلدان يكون الحل الأسهل لإعادة ترتيب الأوراق والمحافظة على التوازنات والتموقعات تغيير الوجوه الحاكمة بشكل روتيني، بدل الذهاب إلى البحث عن مخارج حقيقية تساهم في بعث ديمقراطية مباشرة لا تكتفي بالترويج فقط لوجود حرية تعبير، بل تذهب أيضا أولا لإشباع البطون والمساهمة في نفع العقول وبنائها بما تقتضيه الديمقراطية الصرفة. حلول متشابهة في لبنان، المأزوم والمحاصر باحتجاجات تطالب بإسقاط نظام طائفي لم يقدر سوى على تقسيم الشعب، بين سني وشيعي ومسيحي، لا جديد لمخارج للأزمة سوى إعادة الاتفاق على اسم سعد الحريري المستقيل عقب الاحتجاجات، ليعود من النافذة بعدما خرج من الباب. في العراق أيضا، لم يعد أمام حكومة عادل عبدالمهدي التي ترمي بالكرة في ملعب الغير لتتبرأ من هفوة السقوط وتعنيف وقتل المتظاهرين، سوى المقاومة والتمترس بميليشيات أجنبية لا داخلية تقودها إيران، فمنذ عام 2003، لحظة سقوط نظام صدام حسين، لا جديد أيضا في بغداد سوى استبدال حكومة بحكومة أخرى لا تنجح سوى في إعادة تكرار الفشل تحت شعار هذا ما أفرزته صناديق الاقتراع. أما في تونس، المتباهية طبقتها السياسية باقتراب وصولها من بر الأمان وتأمينها الانتقال الديمقراطي، بدأب شعبها منذ تسع سنوات على الخروج للانتخاب، فلا يختلف الأمر كثيرا أيضا، فإنتاج الحكومات في تونس بات أكثر بكثير من محاولات إنتاج الثروة، فلا وجود لحكومة تعمّر وتستقر كي تنفّذ برامج أو تلبي أهداف ثورة شعبها. شعوب العراق ولبنان وتونس لم تسقط بإرادتها في اختبارات الديمقراطية، بل إن النظم السياسية هي من جعلتها غير قادرة على تركيز ديمقراطية تتلازم فيها المسارات قد يطرح السؤال، لماذا تم تسليط الضوء على هذه البلدان فحسب دون ذكر بقية التجارب الديمقراطية التي تسير بدورها نحو الفشل؟ الإجابة هنا لا تحتمل أكثر من فرضية، فشعوب هذه البلدان لم تسقط بإرادتها في اختبارات الدروس الأولى للديمقراطية، بل إن النظم السياسية المفروضة عليها من قبل الأحزاب وقادة الرأي السياسي بها هي من كبّلتها وجعلتها غير قادرة وإن بقيت مئة عام وهي تصارع وتقاوم على تركيز ديمقراطية صرفة تتلازم فيها المسارات، أي بحصول تنمية اجتماعية واقتصادية تقابلها ثورة فكرية وثقافية تعبّد الطرق للأجيال القادمة. في الأصل، إن كلمة ديمقراطية منذ دولة مدينة أثينا في القرن السادس قبل الميلاد تعني وجوبا حكم الشعب الذي يجتمع ليسنّ قوانين تسهّل طريقة معاشه وتطور فكره وثقافته، لكن ما بدا واضحا في لبنان والعراق اللذين يعتمدان على نظم سياسية طائفية تفرّق أكثر مما توحد شعبي البلدين أو في تونس المعتمدة على نظام شبه برلماني لا ينتج شرعية، أن هذه البلدان تتجه نحو الفشل وهو ما قد يبرر لشعوبها في أي لحظة أن تثور على الحكام. إن الديمقراطية “الفاسدة” لا تحمل من مظاهر الديمقراطية إلا الاسم أو المظاهر العامة كالانتخاب أو الإسهاب في التعبير عن الآراء، لكن في التجارب التي نتحدث ظهرت ملامح أنظمة سياسية تحكم بشرائع تتجه نحو الاستبداد والتفرّد وتفقير الشعوب أكثر مما تنفعها. ففي هذه الدول، تقر السلطة بمبدأ الديمقراطية، لكنها لا تسنّ القوانين الحقيقية التي ترتقي بالشعوب، لتنشأ عند أول اختبار لمدى صبرها وجوبا فوضى عارمة، تجعل طيف واسعا من لأفراد لا يخضعون للدولة بل ويريدون تغيير النظام بأي شكل من الأشكال. معضلة النظام السياسي تكمن المعضلة عند طرح هذه المقاربة، في أنه لا فرق بين ما يقوله يوسف الشاهد، رئيس الحكومة الحالية في تونس، وراشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التي تحكم البلاد، مثلا وبين ما يقوله عادل عبدالمهدي في العراق. الإجابة تكاد تكون واحدة “نحن نصارح الشعب بصعوبة الوضع الاقتصادي، لكن ما باليد الحيلة إن النظام السياسي في البلاد لا يمكننا من الحكم لوحدنا، نحن مجبرون على التوافق مع أكثر ما يمكن من الطيف السياسي المختلف فكريا وسياسيا”. إذن، إذا كان الحكام يدركون ويصرّحون علنا بعدم مواكبة النظم السياسية لمفهوم الديمقراطية، لم الإصرار عليها وهم متيقنون أن تجاربهم الفتية في الديمقراطية تسير نحو الفساد؟ فمن وضع مثل هذه الأنواع من الأنظمة وماذا يريد من وراء التشبّث بها؟ إن النظم الطائفية في لبنان والعراق تبدو في ظاهرها جمهورية وديمقراطية وتوافقية، لكن في حقيقة الأمر إن المحاصصات تكبّلها وتحصرها في زاويا لم تؤد في العقود الأخيرة سوى إلى تفرّد قوى كحزب الله أو الأحزاب الشيعية في العراق لا لتنفيذ وتلبية تطلعات العراقيين بل لتنفيذ إملاءات قوى خارجية، وعلى رأسها إيران ولذلك تجدها الآن غير مستعدة للتغيير أو استبدال نظام الحكم. في تونس ينطبق نفس الشيء تقريبا، تتشبث حركة النهضة رغم تضررها هي الأخرى من النظام شبه البرلماني الذي ساهمت في هندسته عام 2014 عند صياغة دستور الجمهورية الثانية، لكنها تأبى تغييره كونها تعلم أنه إن حصل تغيير النظام السياسي، فإنه إن حصل وسقطت في إحدى المحطات الانتخابية، فانه من الصعب العودة إلى الحكم حتى من النافذة لا من الباب. إن أقصى ما حققته ديمقراطيات المحاصصات في هذه البلدان هو إنتاج سياسات أشبه بمتوحّشة، لا همّ لها سوى تعبئة موارد الدولة من جيوب الطبقات الوسطى والضعيفة بإثقال كاهلها بالضرائب. وكل هذا ما يدفع شعوب هذه البلدان للثورة تقريبا عند نهاية كل عام، أي مع بداية مناقشة الحكومات والبرلمانات لقوانين الموازنات العامة، لتجد هذه الشعوب نفسها أمام خيارين، إما أن تحن إلى دكتاتورية تشبع بطونها كما حصل في تونس مع نظام زين العابدين بن علي أو في العراق في عهد صدام حسين وإما أنها تطمح لثورة دون أن تفكّر حتى في بديل قد يحقق لها ما تريد. إن الديمقراطية، التي تتبجح بها الحكومات في هذه البلدان الآيلة نظم حكمها للسقوط، لا تعني بالضرورة تقديم المساعدات الاجتماعية أو البحث فقط عن حلول اقتصادية، فأي ديمقراطية لا تكون مرفوقة بثورة ثقافية يكون مصيرها الفناء وأن تُقبر في أول منعطف تاريخ. لقد كان التعليم كما الصحة وهما أبرز ما يؤكّد تطور الشعوب، علامة بارزة في العراق قبل عام 2003، كما في تونس منذ فترة الاستقلال في عهد المستعمر الفرنسي والشيء نفسه ينطبق على لبنان، لكن ما الذي حصل تحت وطأة ديمقراطيات المحاصصات؟ اتجه قادة العراق إلى إغراق البلد بمناهج تعليم طائفية تفرق بين الشيعة والسنة ولا تقدر على إحياء ما حلم به البلد من ثورة صناعية وصحية.. إلخ، فيما تراجع زخم الإنتاج الفكري والأدبي وحتى الفني في لبنان، أما في تونس يتظاهر الشعب بين الفينة والأخرى أنه قد حقق مكاسب في الحريات والحقوق المدنية، لكنه يُصاب في كل مرة بإحباط سببه تغلغل مشاريع سياسية وأيديولوجية تميل إلى العودة بالبلد إلى ما يقارب أربعة عشرة قرنا، عبر الخوض في طرح مسائل لا تواكب العصر ولا تخدم الديمقراطية الفتية والناشئة التي يبدو أنها تسير بدورها نحو منعطف خطير.
مشاركة :