انتقادات ماكرون للناتو.. وأزمة السياسة الدفاعية الأوروبية

  • 11/28/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يحتفل حلف شمال الأطلسي (الناتو) هذا العام بالذكرى السبعين لتأسيسه، إلا أن احتفاله هذه المرة يأتي محملا بالعديد من التحديات، التي تهدد الهيكل الأمني الطويل المدى للحلف، فثمة تحديات خارجية، تتمثل في روسيا المتحفزة والصين الطموحة، وتحدي الإرهاب العابر للحدود الذي يعرقل أعضاء الناتو وبخاصة في تركيا وغرب أوروبا؛ وهناك تحديات داخلية، تتمثل في عدم اهتمام عدد من الأعضاء المؤثرين في الحلف بالناتو وقواعده، وانتقاد الرئيس الأمريكي ترامب للحلف لكونه يستنزف الموارد الأمريكية- وفق تصوره- مما يدل على أنه لا يؤيد مبدأ الأمن الجماعي، أضف إلى ذلك اتباع تركيا بقيادة أردوجان لسياسة خارجية مستقلة، تقوم على بناء علاقات قوية مع أعداء الناتو، مثل: روسيا وإيران. ويعتبر التحدي الفرنسي -المتمثل في إعادة الهيكلة- هو الأكثر لفتا للانتباه، رغم أن فرنسا تمثل المصدر الداعم والرئيسي للقوى التنظيمية والعسكرية للناتو في الفترة الأخيرة؛ فقد جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون يوم 7 نوفمبر، في مقابلة له مع مجلة «ذي ايكونوميست»- مخيبة للآمال تجاه الحلف؛ فهو يعتقد أن الناتو لم يعد منظمة قابلة للحياة أو يعتمد عليها، وقال: «ما نعيشه الآن هو موت دماغي لحلف الناتو»، معتبرا إياه في حالة موت إكلينيكي، ومشيرا إلى التحديات التي طرحتها تركيا وأمريكا من حيث السلامة الهيكلية والتشغيلية. إنَّ انتقاد الحلف أمر غير شائع بين أعضائه؛ فلم ينتقد أي عضو من قبل -غير أمريكا- قدرة المنظمة وأهميتها، لكن ماكرون انحرف عن هذه القاعدة بشكل كبير، منتقدا دعم أمريكا لدول الناتو في حالة وقوع هجوم، فضلا عن رفض ترامب لتقديم هذا الدعم في العديد من المناسبات، لأن المنظمة افتقدت مبدأ الدفاع الجماعي، وأخبر ماكرون «ذي ايكونوميست» أنه: «يجب علينا إعادة تقييم ما هو حلف الناتو في ضوء التزام أمريكا». وقد أثارت هذه التصريحات ردود فعل كبيرة من قادة الحلف، لكونها تأتي في فترة حاسمة للمنظمة؛ حيث قابل الأمين العام للناتو «ينس ستولتنبرغ» الرئيس ترامب في واشنطن يوم 14 نوفمبر 2019، وهو اللقاء الذي يعتبره العديد من المحللين أفضل فرصة حتى الآن لإقناع ترامب الشكاك بمزايا البقاء كعضو فعال في التحالف، كما ستعقد القمة السنوية للناتو في لندن في أوائل ديسمبر بمناسبة مرور الذكرى الـ70 لتأسيسه، ومن المتوقع أن يكون هذا التجمع ذا قيمة كبيرة لجميع المعنيين بأمر الحلف. ورفض العديد من أعضاء الحلف تعليقات ماكرون؛ حيث جاءت ردودهم معارضة ورافضة لتصريحاته على المستوى الدبلوماسي والحكومي والشخصي، فالجنرال نيكولاس كارتر -قائد أركان القوات المسلحة البريطانية- عبر عن موقف بلاده مشيرًا إلى أن: «الآراء المتباينة أمر طبيعي لأي منظمة دولية... فهناك دائما توترات في التحالفات، ومن المهم جدا أن نتعاون جميعا وأن نساهم جميعا في هذا التحالف بطريقة عادلة»، وبدورها عارضت المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» تصريحات ماكرون، معتبرة أنه عبر عن رأيه بكلمات صارمة إلى حد ما، لكنها لا تتفق معه عن حالة التعاون داخل الناتو، ودافع وزير الخارجية الأمريكي «مايك بومبيو» عن وجود حلف الناتو، معتبرا إياه مهما وتاريخيا، ومن أكثر الشراكات أهمية واستراتيجية على مر التاريخ. وجاء تصريح الأمين العام للحلف ليكون من أقوى التصريحات المعارضة لتخليه عن الدبلوماسية الناعمة، حيث رفض «ستولتنبرغ» رفضا واضحا آراء ماكرون لتقويض الوحدة التنظيمية للحلف، في وقت يتعرض فيه للتهديدات الداخلية والخارجية، وقال: «أي محاولة لإبعاد أوروبا عن أمريكا الشمالية ليست فقط تهدد بإضعاف التحالف، ولكن أيضا تؤدي إلى تقسيم أوروبا»، وأضاف «أرحب بالوحدة الأوروبية والجهود المبذولة لتعزيز الدفاع الأوروبي، لكن الوحدة الأوروبية لا يمكن أن تحل محل الوحدة عبر حلف الناتو». ونوّه وزير خارجية ألمانيا «هايكو ماس» بأهمية تواجد أمريكا في الحلف، فهي تشكل الأساس الداعم لقوة المنظمة؛ وكتب في مجلة «دير شبيغل»: «بدون الولايات المتحدة، لن تتمكن ألمانيا ولا أوروبا من حماية أنفسهما بشكل فعال». وقد وجدت تفسيرات عدة لتصريحات ماكرون؛ حيث قالت مجلة «ذي إيكونوميست» إن «التفسير اللطيف لتعليقات ماكرون هو أنه -قبل قمة حلف الناتو- يسعى إلى توصيل دعوة للاستيقاظ المزدوج إلى كل من الولايات المتحدة وأوروبا»؛ فهو يُخبر أمريكا بإعادة الالتزام بالدفاع الأوروبي، وضرورة أخذ أوروبا موضوع أمنها الخاص بجدية، بينما فسَّر معظم المحللين تصريحاته على أنها محاولة للاستقلال الأوروبي، وهذا ما تشير إليه خبيرة السياسة الخارجية «ديبورا هاينز» في مقال افتتاحي لموقع سكاي نيوز، فتقول: «ربما تكون تصريحات ماكرون تخدم مصالحه بشكل متعمد، بالنظر إلى أنه أقوى المدافعين عن وجود قوة عسكرية تابعة للاتحاد الأوروبي». وتشير «تارا فارما» -مديرة مكتب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في باريس- إلى أن ماكرون «يخشى أن يتم تهميش أوروبا في عالم تتصاعد فيه القوى الاستبدادية، ويبدو أن النفوذ الأمريكي الصيني مهيمن، وأن شرعية النظام المتعدد الأطراف أصبحت موضع تساؤل متزايد»، ويرى محللون آخرون أن تصريحاته ما هي إلا محاولة لتنشيط النقاش في قمة لندن وتجميع الدعم للسعي إلى الاستقلال الأوروبي؛ حيث «إنه يعتقد أنه لا يمكن لأوروبا أن تحتفظ بقوتها إلا من خلال تعزيز سيادتها في الدفاع والتكنولوجيا»، ومن ثم تفهم ملامح الاستقلال الاستراتيجي والرغبة الأوروبية في الاكتفاء الذاتي الدفاعي وتقليل اعتمادها على مظلة الحماية العسكرية الأمريكية، مما يسمح لها باتباع سياسة دفاعية وخارجية مستقلة، تضعها على قدم المساواة مع القوى الكبرى الأخرى، مثل: روسيا والصين. ورغم أن عددًا من الأوروبيين دافعوا عن تكريس الاستقلال الاستراتيجي لسنوات عدة -قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض- وبغض النظر عن تفسير المقصد الحقيقي لتصريحات ماكرون ونواياه، فإن المناخ اليوم هو بلا شك- غير مواتٍ للمُضي قُدما في هذه السياسة، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب نبيِّنُها على النحو الآتي: أولا: ثمة قناعة بين المسؤولين الأوروبيين أن مخطط الاستقلال غير قابل للتحقيق وعديم الجدوى ومكلف؛ حيث توصل تقرير حديث للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية إلى أنه سيحتاج إلى ما لا يقل عن 347 مليار دولار من استثمار الدول الأوروبية في قدراتها الدفاعية؛ للقضاء على الفجوات الاستراتيجية التي سيخلفها الانسحاب العسكري الأمريكي وتحقيق الاستقلال الاستراتيجي، كما سيستغرق حوالي 20 عامًا لتحقيق ذلك، في ظل ما سيعتري مُغادرة أوروبا من تهديدات جيوسياسية في الوقت الراهن. والاعتماد الأوروبي الكبير على حماية الجيش الأمريكي يعود إلى تاريخ طويل من الإهمال الأوروبي للإنفاق الدفاعي على الناتو، وبمجرد مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، فإن 80% من الإنفاق الدفاعي للناتو سيأتي من حلفاء من خارج الاتحاد الأوروبي، حيث ستنفق 5 دول فقط من حلف شمال الأطلسي (الناتو) ما لا يقل عن 2% على ميزانية الدفاع التي أقرها الناتو في عام 2019، وهناك إرادة سياسية شبه منعدمة لدى العديد من دول الاتحاد لزيادة الإنفاق الدفاعي إلى المستويات المطلوبة لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي. ثانيا: يرى معظم المحللين أن أمر الاستقلال إضافة إلى كونه بعيد المنال، فإنه أيضا غير مرغوب فيه، ويرون أن القوة الأمريكية -رغم عدم القدرة على التنبؤ بقرارات ترامب- مهمة وسبب كاف لمحاولة إبقائها داخل الحلف، وحول هذه الأهمية كتب وزير الخارجية الألماني «ماس» في مقاله: «حتى إذا كانت أوروبا قادرة في يوم من الأيام على ضمان أمنها، فلا يزال علينا الإبقاء على الناتو، نعم، نريد أوروبا قوية وذات سيادة، لكننا في حاجة إلى بقاء أوروبا كجزء من حلف شمال الأطلسي قوي وليس كبديل له» من دون القوة العسكرية الأمريكية. وتظل أوروبا والولايات المتحدة -من نواح عدة- حليفتين آيديولوجيتين، وتدركان العديد من التهديدات التي تحيق بهما، مثل: التحديات الأساسية لأمنهما؛ والمتمثلة في الصين، والإرهاب من دول مُعادية، وتنامي الحروب الإلكترونية التي تنتهجها دول معادية، مثل: إيران وكوريا الشمالية وروسيا. ثالثا: هناك الكثير الذين يرفضون تقييم ماكرون لرسم مكانة أمريكا داخل الحلف، كما أن معظم المسؤولين الأوروبيين لا يعتقدون أن مخاوف ترامب حول فعالية المنظمة لواشنطن ستدوم خلال فترة رئاسته، ويسلط «جوناثان إيال» -من المعهد الملكي للخدمات المتحدة- الضوء على هذا الأمر قائلاً: «إن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي بدا فيها أنه يستخف بنقطة تطبيق المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو تظل مثيرة للقلق، ولكن من الضروري أن نتذكر جيدًا أنه عندما نُشرت تلك التصريحات لأول مرة العام الماضي كان الرئيس الأمريكي حينها تغمره موجة من الانتقاد من المؤسسة السياسية والعسكرية الأمريكية على حد سواء. ولعل القضية الوحيدة التي يوجد بشأنها توافق وإجماع عام في واشنطن اليوم هي أن الناتو مازال يمثل حجر الأساس لعلاقة الولايات المتحدة الأمنية مع الدول الأوروبية». وهذا بدوره يقلل بشكل لا لبس فيه من الحاجة إلى الاستقلال الذاتي لدى العديد من الدول الأوروبية. رابعا: تعارض معظم الدول الأوروبية الاستقلال الاستراتيجي لكونها لا تثق في نوايا ماكرون والجمهورية الفرنسية، ويرون طموحا فرنسيا لترؤس القوة الأمنية الجديدة التي يراد تشكيلها، وهذا يسبب لهم قلقا بالغا، كما أن بعض القوى الكبرى كألمانيا وبريطانيا تتناقض سياستيهما معًا، ويتمتعان بنفوذ أقل على صنع القرار، وينطبق هذا على دول أوروبا الشرقية، التي ترى عدم جدوى في الرؤية الفرنسية، ولهذا ترفض هيمنتها الاستراتيجية على أي هيكل أمني أوروبي مهما كان الأمر، ويخلص «كوري شاك»-الكاتب بمجلة «ذا أتلاتنتك»- إلا أن: «المكابح التي تعترض الطموحات الفرنسية ليست أمريكية في المقام الأول، ولكنها أوروبية في الوقت ذاته، ويبقى واضحًا أن ماكرون يناصر فكرة إعادة الارتباط الأوروبي مع الكرملين للتفاوض معًا على وجود نظام أمني جديد للدول الأوروبية كافة، وهو ما لا تؤيده دول البلطيق ولا البولنديون أنفسهم»، ومبعث رفض دول أوروبا الشرقية تقديم أي تنازلات لموسكو لكونها تشكل أكبر تهديد لأمنها القومي، وهذا ما لفت الانتباه إليه رئيس الوزراء البولندي «ماتيوس موراويكي» عندما وجه كلامه إلى الرئيس الفرنسي، قائلاً: «إن ماكرون لا يشعر بالنفس الساخن للدب الروسي على رقبته». وختامًا: بات من الواضح لتمرير وتحقيق الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي الذي يتبناه ماكرون تلقي دعم جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي، وهذا بعيد المنال عن أرض الواقع في الوقت الحالي؛ لأن دول أوروبا الوسطى والشرقية في الاتحاد الأوروبي يعتريهم القلق جراء التهديدات الروسية، ويعارضون صراحة إضعاف الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة؛ حيث يرونها أساسية في الدفاع عن العداء الروسي، ومن ثمَّ قوبلت تصريحات ماكرون الجريئة بموجة من الانتقادات الشديدة من قبل شركاء الناتو- رغم كون الكثير من الدول الأوروبية يختلفون مع ترامب، ونظرته للأمن الجماعي عبر المحيط الأطلسي- إلا أنهم يرون أن واشنطن لا غنى عنها لأمنهم القومي، ويفضلون محاولة تغيير رأي ترامب في حلف الناتو، أو على الأقل الانتظار حتى يترك منصبه لمواصلة اتباع سياسات تعزيز الدفاع الجماعي، والتي كان يتم تنفيذها منذ 70 عامًا، ورغم أن الناتو تقابله تحديات كثيرة ويستحق مراجعة سياساته إلا أنه -بالنسبة إلى الأوروبيين- منظمة لا غنى عنها، وليس لها بديل قابل للتطبيق، وهذا يجعل طموح ماكرون ومؤيديه في الحكم الذاتي الاستراتيجي مجرد حلم لا أكثر ولا أقل.

مشاركة :