في منتصف أكتوبر الماضي، أعلنت الحكومة فرض ضريبة على المكالمات التي تتم عبر تطبيقات المراسلة عبر الإنترنت، في سياق أزمة اقتصادية حادة. دفع هذا الإجراء، على الرغم من سحبه لاحقا، اللبنانيين نحو الشارع محتجّين. فجأة، انفجر غضب سنوات. وتحول الغضب إلى احتجاجات متواصلة عمت مختلف المدن اللبنانية للمطالبة برحيل كل الطبقة الحاكمة غير الكفوءة. ولتفتح هذه الاحتجاجات جراح الكثير من اللبنانيين وتتحول إلى منصة محاسبة ومطالبة بالتغيير والإصلاح. وكان لافتا من بين جموع المحتجين مجموعة الأمهات المتزوجات من أجانب وهن يطالبن بمنح أبنائهن جنسيتهن، كما كانت حاضرة بقوة صورة نادين جوني، هذه الشابة اللبنانية التي توفيت وفي قلبها حرقة على ابنها الذي حرمها منه القانون، لكن بقي صوتها مدويا حتى بعد وفاتها وهي تقول “لا للفساد القابع تحت العمائم”. من هي نادين جوني قبل وفاتها، كتبت نادين رسالة لابنها البالغ من العمر 9 سنوات، تقول “السلام على الليالي المقدسة عندما تغفو بالقرب مني. السلام على أثر الحب الذي رُسم على وجهك. هذه هي ليلتي”. هذه الليلة التي تحدثت عنها الأم الشابة هي ليلة 4 أكتوبر 2019، الليلة الأخيرة مع ابنها. بعدها بيومين، توفيت نادين في حادث سير وهي في سن الـ29. لكنها تحولت إلى أيقونة لكل الرافضين للقوانين الدينية والعنصرية. وعرفت بنشاطها من أجل تغيير قانون الأحوال الشخصية للطائفة الشيعية في لبنان. وكانت أطلقت حملة، عبر الإنترنت وشاركت في احتجاجات في الشوارع، ضد هذه القوانين منذ أن فقدت حضانة ابنها. ولم تحصل على حقوق الزيارة سوى لمدة 24 ساعة في الأسبوع. وكتب أحد أقارب نادين على صورة لها وهي مبتسمة وذراعا ابنها ملفوفتان حول عنقها، “يعتقدون أن صوتك قد اختفى. نادين، نحن صوتك. ارقدي في سلام! سنقاتل من أجلك”. في الموت كما في الحياة، عرضت نادين جوني، التي يُطلق عليها أيضا اسم أم كرم، كفاح النساء اللبنانيات اللائي يكافحن القوانين التي تمنح المحاكم الدينية الحق في إبداء الرأي في العديد من جوانب حياتهن. وتحولت إلى رمز للمطالبين بإصلاح قوانين الأحوال الشخصية ومراقبة المحاكم الدينية، ووضع خيار نظام مدني، أو إصدار قانون الأحوال الشخصية المدني الموحد للجميع. قانون لكل طائفة يختلف قانون الأحوال الشخصية في لبنان من طائفة إلى أخرى. مما ينتج عنه 15 مجموعة مختلفة من القوانين حول أمور مثل قواعد الزواج والطلاق والحضانة وزيارة الأطفال. فمثلا في حالات الطلاق للمسلمين الشيعة كنادين جوني، عادة ما تمنح المحاكم الدينية الشيعية حضانة الأطفال للآباء في سن الثانية للأبناء والسن السابعة للبنات. ويقول مؤيدو هذا النظام إنه يعكس تعدد الأديان في البلاد. فيما يقول المنتقدون إنه تمييز ضد النساء على أساس طائفتهن. فعلى سبيل المثال، يمكن للأمهات السنّة المطلقات إبقاء الأبناء والبنات حتى سن 12 سنة. وقالت لاما فقيه، مديرة مكتب هيومن رايتس ووتش في بيروت، “لقد تحملت النساء حقا وطأة نظام الحكم الطائفي ونرى ذلك في قوانين الأحوال الشخصية. هذه انتهاكات فظيعة تؤدي إلى ممارسة العنف ضد المرأة، وتؤدي إلى نتائج لا تتم فيها رعاية الأطفال من قِبل الأم كما ينبغي أن يكون الحال”. وقالت زويا روحانا، من منظمة “كافا” النسوية، إن عددا لا يحصى من قوانين الأحوال الشخصية متشابك مع السياسة الطائفية “للأسف، هذه النهضة التي شهدناها ورأيناها في الشوارع مؤخرا بقيادة النساء، لا تنعكس في القوانين”. وتتذكر باديا فاص، البالغة من العمر 49 عاما، كيف كانت نادين جوني، التي التقتها في إحدى الاحتجاجات، منفعلة إلى درجة أن انهمرت دموعها. قالت “يا لها من طريقة لتحطيم المحرمات. لم أصدق ذلك. حتى رجالنا لا يستطيعون التحدث بهذه الطريقة”. وأضافت فاص “كنت أنظر إليها وأظن أن هذه الفتاة الصغيرة التي تشعر وكأنها تستطيع تغيير العالم لا تخاف من شيء، ليس من طائفة أو رجال دين. ما الذي ينقصني عنها؟”. إلى جانب نادين جوني تنشط لبنانيات كثيرات من أجل تعديل القوانين، منهن المحامية فادية حمزة، التي قالت إنها كثيرا ما تسمع انتقادات من مجتمعها الشيعي بأنها تجلب له الفضائح. وأسست حمزة صفحة على موقع فيسبوك بعنوان “ثورة امرأة شيعية” لتثقيف النساء حول حقوقهن في المحاكم الشيعية، من خلال تبادل قصصهن وإعلامهن بأنهن “إذا لم تتمردن، فلن يحصلن على حقوقهن”. وقالت حمزة إن “معظم الأسر تعاني من المآسي. يجب أن نقدم مثالا للطوائف الأخرى لأنه مثلما نعاني نحن في المحاكم الدينية، فإن الطوائف الأخرى تعاني أيضا”. واستلهمت حمزة من محنة أختها، التي نُشرت أخبارها في عام 2016 عندما تم اعتقالها واحتجازها لبضعة أيام بسبب رفضها تسليم ابنها إلى والده. وقالت إن نادين جوني كانت من بين الأشخاص الذين ساعدوا في أن تصبح قضية أختها قضية رأي عام وقادت الهتافات في مسيرة إلى مركز الشرطة حيث تم نقلها. وقالت “كيف نشعر عندما تموت أمهاتنا وهن يشعرن بالاضطهاد؟ وعندما نحرم أطفالنا من أمهاتهم وهن لا يزلن على قيد الحياة؟”. وقالت زينة إبراهيم، التي أسست حملة لرفع سن حضانة الأمهات، إنها تؤيد فكرة وجود قانون مدني موحد للأحوال الشخصية لكنها تعتقد أنه “حلم بعيد”. وقالت إن الهدف الأكثر قابلية للتحقيق هو رفع سن الحضانة إلى السابعة للفتيان وإلى التاسعة للبنات. وتذكرت زينة نادين جوني، التي عملت معها لسنوات، ووصفتها بالـ”متحمسة والمكلومة”. نظرة رجال الدين قال الشيخ موسى السموري، قاضي إحدى المحاكم الشيعية، “إن المسائل الدينية لا تخضع لضغط الشارع. المسألة تتعلق برضا الله؛ الله يريد هذا أو لا يريد هذا. القاضي لا يتصرف بناءً على نزوة أو على ما يريد”. لكنه استطرد موضحا أنه، مع زملائه من القضاة، ينظر في مصلحة الأطفال الفضلى على أساس كل حالة على حدة. وقال “إذا كان أبا سيئا ولم يكن موثوقا به، فإننا لا نمنحه حق الحضانة”. وقال أحمد طالب، رجل دين شيعي، إن الحل هو إصلاح قواعد المحاكم الدينية، مشيرًا إلى أن هناك أكثر من رأي حول قضية الحضانة في الفقه الشيعي. وهو يدعم رفع سن حضانة الأمهات إلى سبع سنوات على الأقل مع السماح للقضاة بترك الأطفال مع الأم لفترة أطول عندما يكون ذلك في مصلحتهم. وأضاف طالب “الدين في جوهره رحمة، وليس نصوصا بلاستيكية. الناس المتدينون بحق، وأنا واحد منهم، يطالبون بالتغيير”. وقال إن الفشل في تقديم حلول في السياق الديني يمكن أن يدفع الناس إلى البحث في مكان آخر. وأضاف طالب “اليوم في لبنان، هناك شكاوى من المحاكم الدينية من جميع الطوائف الإسلامية والمسيحية”. تزوجت نادين قبل أن تبلغ التاسعة عشرة من عمره، وتوترت علاقاتها مع زوجها في وقت مبكر، ووصل الأمر إلى حد تعنيف زوجها لها. وبعد مغادرتها منزل زوجها، افتك هذا الأخير ووالدته ابنها كرم منها. ومنذ تلك اللحظة، بدأ نشاطها في قضية الحضانة. توفيت نادين قبل الاحتجاجات الحالية. لكن صورتها حاضرة في شوارع بيروت. وفي ميدان بيروت، أمام نصب تذكاري بمناسبة مرور 40 يوما على وفاتها، أشعلت الشموع. وتجمعت عائلة نادين وأصدقاؤها لإحياء ذكرى وفاتها. أشعلت زينب كوثراني (25 عاما) شمعة، وهي تقول “قضيّتك بأيد أمينة، سنستمر حتى النهاية”. وأمسكت كوثراني بلافتة مكتوب عليها “صوتك كان وسيظل ثورة يا نادين”، أما شقيقتها ندى فقد علقت دبوسا على صدرها كُتب عليه “لا يمكننا تأخير قضايا حقوق المرأة. الموت لا ينتظر”.
مشاركة :