ما بين المؤرخ والمبدع تراوح خطى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ولذا كان طبيعياً أن يحتفي به الكتاب والمؤرخون، فقد أهدى إليه اتحاد المؤرخين العرب، الذي افتتح مبناه الجديد الأسبوع الماضي، الكتاب التذكاري بحوث ودراسات تاريخية تقديرا وتكريما لسموه، وتتصدره ترجمة ذاتية تؤكد ما يعرف عنه من تعلقه بالعلم والبحث العلمي والعلماء، وتشجيعه وإشرافه على الأمور التعليمية في الشارقة، فقد تربى على حب العلم والمعرفة، وكان ولا يزال شغوفاً بتاريخ وطنه، وراعياً للأدب والثقافة والفن، وينعكس ذلك على إمارة الشارقة التي تزدهر بالمحافل والمراكز الثقافية، وتشارك في كل ما يخدم هذه المجالات الحيوية في بناء الحضارة الإسلامية. يشير الكتاب إلى أن إمارة الشارقة هي الإمارة الوحيدة التي لها حدود مع جميع إمارات الدولة، ولطالما كانت مسرحا للأحداث السياسية المهمة، لكنها تنعم بالاستقرار والرفاهية في ظل هذا الحاكم العادل، فنحن بإزاء شخصية ذات اهتمامات شاملة وثقافة موسوعية، استطاع صاحبها أن يجمع بين التخصص العلمي في أكثر من مجال وبين العمق المعرفي كقارئ محترف، يعرف قيمة الكلمة منطوقة ومقروءة. لم يقتصر اهتمام صاحب السمو حاكم الشارقة على التأليف الأدبي والعلمي، وإنما انطلق إلى مجال التطبيق، فكانت بصماته واضحة واهتمامه الفعلي بمؤسسات علمية واجتماعية في الوطن العربي والعالم، وهذا ضمن اهتمامه الأصيل بالحضارة الإنسانية وبالثقافة اللذين هما محور الوجود الإنساني، وبهما يتحدد المعيار الذي تتمايز به المجتمعات البشرية، ويعرف كل من اقترب من صاحب السمو حاكم الشارقة أو تابع أحاديثه وتصريحاته، مدى وفائه لكل مكان تلقى فيه تعليمه ومعارفه، خصوصا مصر التي عاش فيها مدة مزدهرة من شبابه، وخالط أهلها من كل المستويات، حتى عمق أعماق الأحياء الشعبية، ومن ضمن إسهاماته في ما يتعلق بتخصصه العلمي، وهو التاريخ، فقد تبرع بشراء أرض وبناء مبنى يليق بالجمعية المصرية التاريخية، على أحدث الطرز والتجهيزات، وقد اختارته الجمعية العمومية للجمعية عام 2001 رئيسا فخريا لها، كما أنه دعم المجمع العلمي المصري بكتب ومخطوطات نادرة بعد الحريق الذي شب فيه. في هذا يقول الدكتور حسنين محمد ربيع - رئيس اتحاد المؤرخين العرب - لعل من أصوليات التاريخ ذوات الاعتبار أن يوسد الأمر إلى أهله، وأن توضع الأمور في نصابها، وأن يعرف الفضل لأصحابه وذويه، وعلى ضوء هذه الكلمات المنيرة يهدي اتحاد المؤرخين العرب كتابه التذكاري إلى واحد من أعلام المؤرخين وهو صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، فقد وعد سموه بإنشاء مبنى لاتحاد المؤرخين العرب، وقد وعد فأوفى، وها هو الصرح الشامخ، لهذا البناء العتيد، الذي يبهج النفوس ويأخذ بالألباب، وإذا كان هذا الصرح قد تكلف الملايين فإن أرضه وفرشه وأثاثه قد تكلفت مثلها، وربما يتوارى الدعم المادي للأرض والمعمار، إلى جانب دعم سموه المعنوي فائق القدر والمقدار. كان المؤرخ الراحل رءوف عباس يصف سموه بالمؤرخ العربي الملتزم وراعي الثقافة العربية، والمواطن العربي الذي تتجسد فيه سمات العربي الأصيل، وفي مقال نشرته الخليج للمؤرخ الراحل يقول: عرفت صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي مؤرخاً قبل أن التقى به إنساناً وراعياً للثقافة العربية، وملتزماً بقضايا أمته، مشغولاً بهمومها، معنياً بمستقبلها، وعرفته مؤرخاً مرموقاً صاحب مشروع علمي متكامل، منذ كانت رسالته المبهرة التي نال بها درجة الدكتوراه في التاريخ، ودحض بها افتراءات مؤرخي الغرب عن الجهاد العربي ضد التغلغل الأجنبي في الخليج، في بواكير القرن التاسع عشر، التي رمت إلى إهالة التراب على ذلك التاريخ المشرف للمقاومة العربية، والإنقاص من قدر أصحابها. يقول الدكتور رءوف عباس: قرأت الكتاب بالإنجليزية الذي اختار له عنوانا يعبر عن تحدي ذلك الافتراء على المقاومة العربية وهو أسطورة القرصنة العربية، وراح هذا المؤرخ العربي الجليل يستكمل مشروعه العلمي الممتد لإعادة كتابة تاريخ الخليج العربي، يغوص في الوثائق البرتغالية والإنجليزية والعربية والفارسية ليؤكد في سلسلة قيمة من البحوث الرصينة، عروبة الخليج، ويضعه في موضعه الصحيح من تاريخ الوطن العربي الحديث، ويلقي الضوء على مكانته في تاريخ الجزيرة العربية، ويقدم القول الفصل في تبرئة الملاح العربي ابن ماجد من فرية تورطه في تمكين البرتغاليين من التغلغل في البحار العربية. يذكر عباس أن المشروع العلمي لصاحب السمو حاكم الشارقة لا يزال يمتد ليخدم التاريخ القومي لأمته ووطنه بأستاذية واقتدار، وأصبحت مؤلفاته مراجع بالغة القيمة لا غنى عنها لمن يطلب المعرفة الحقة بتاريخ الخليج العربي والأمة العربية. يقول:عرفت سموه راعيا للثقافة العربية، تمتد رعايته إلى المؤسسات العلمية والثقافية على امتداد الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، وإن نسيت فلن أنسى وقفته الكريمة إلى جانب الجمعية المصرية للدراسات التاريخية التي كانت مهددة بالضياع وفقد مقرها المتواضع وسط القاهرة، فامتدت يد الشيخ الدكتور سلطان إليها لتقيلها من عثرتها، وتنشئها نشأة جديدة، فشيد لها مقراً في مدينة نصر في القاهرة من ماله الخاص، وجهزه بكل ما ييسر لهذه الجمعية العريقة أداء رسالتها في خدمة تاريخ الأمة العربية ودعمها بعطائه وكرمه. وعرفت المواطن العربي سلطان القاسمي - الكلام للدكتور رؤوف عباس - يجيش صدره بهموم أمته في لقائه مع أعضاء الجمعية المصرية للدراسات التاريخية في حفل افتتاح المقر الجديد الذي تفضل بإهدائه إليها، وفي محاضرته في معرض الكتاب في القاهرة، وفي لقاء خاص جمعني وزميلين من أعضاء مجلس إدارة الجمعية في ديوانه العامر في الشارقة، فكان حديثه معنا معبراً عن شجون وتطلعات المواطن العربي الذي تشغله هموم أمته، التي ينشد لها مستقبلاً أفضل، ويتطلع إلى أن تحتل مكانها اللائق بها بين الأمم. وأصدرت الجمعية المصرية التاريخية كتاباً تذكارياً بعنوان سلطان بن محمد القاسمي.. أمير من هذا الزمان تعرض لمؤلفات صاحب السمو التي تزيد على 21 كتاباً تاريخياً إضافة إلى أعماله الإبداعية، ويتصدر الكتاب ما كتبه رئيس الجمعية د. عادل غنيم الذي يصف سموه بالرجل المؤسسة، حيث يؤكد أن شخصه يتمثل فيه نموذج المؤسسة التي ترعى العلوم والآداب والفنون، فمن إنشائه لجامعة الشارقة والعديد من المتاحف والمعاهد العلمية، إلى إنشائه مكتبة كلية الزراعة في جامعة القاهرة، إلى دعمه الكبير لصندوق رعاية وعلاج الأدباء المصريين إلى إنشائه مبنى خاصاً لاتحاد المؤرخين العرب، وكذلك مبنى دار الوثائق المصرية في منطقة الفسطاط، إلى غير ذلك من المشروعات التي تخفى علينا تفاصيلها، على حد تعبير د. عادل غنيم. يشير د. غنيم إلى أن الرجل المؤسسة نموذج للعمل المثمر في صمت، ورعاية الآداب والعلوم دون ضوضاء، فهو لا يبتغي بأعماله البارزة سوى وجه الله، والنهوض بالمؤسسات الثقافية في وطنه العربي، وقد تفرد عن غيره من أمراء زمانه وغير زمانه، بكونه مؤرخاً وأديباً، يصدر في ما يكتب عن أشواق عصره وطموحات أمته. ويكشف د. أحمد الشربيني أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة القاهرة عن دوافع اتجاه سموه إلى التاريخ، برغم دراسته العلوم الزراعية، ومنها أن اتجاه صاحب السمو لدراسة التاريخ لم يكن بدافع الاشتغال به، بقدر ما كان اكتساب مهارات الكتابة التاريخية، وتوظيف التاريخ من أجل دراسة بعض الموضوعات والقضايا المهمة في تاريخ العرب والمسلمين، في مرحلة الاستهداف الغربي للمنطقة العربية بصفة عامة ومنطقة الخليج بصفة خاصة، وقامت هذه الدراسات بالأساس على الوثائق التي توزعت في الأرشيف الغربي بمستوياته ومواقعه المختلفة، إضافة إلى الجهود التي بذلها هو للوصول إلى وثائق المنطقة، في دور الأرشيف الشرق إفريقية، وبخاصة أرشيف زنجبار الوطني. وحاول صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي من خلال كتابه القرصنة العربية في الخليج دفع اتهام الغرب للعرب بالضلوع في أعمال قرصنة بالخليج والمحيط الهندي، وغيرها من أعمال لا تدخل إلا في عداد الأساطير، التي لا يجد الغرب أدنى مشكلة في اختلاقها، حتى يبرر سياساته الإقصائية للنشاط الملاحي والتجاري العربي في المنطقة، وفي هذا الاتجاه اعتبر سموه في دراسته الاحتلال البريطاني لعدن أن هذا الاحتلال جاء بدعوى وقف أعمال القرصنة ضد السفن البريطانية، لكن صاحب السمو حاكم الشارقة يكشف أن بريطانيا كانت تريد الحصول على ميناء في مدخل البحر الأحمر، يساعدها في وقف تحركات محمد علي في الجزيرة العربية، وحماية إمبراطوريتها في الهند، بعد أن فشلت في الحفاظ على وجودها في مدغشقر. ومن الأخطاء الشائعة التي دحضها سموه ما ردده بعض المؤرخين حول أن أحمد بن ماجد هو الذي أرشد فاسكو دي جاما إلى سواحل الهند، ففي دراسة عنوانها بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد يؤكد صاحب السمو حاكم الشارقة من واقع قراءته ليوميات الرحلة الأولى لفاسكو دي جاما إلى الهند على أن المرشد الذي أوصل الملاح البرتغالي إلى الهند كان هندياً، وينتمي إلى إحدى الطوائف الهندوسية. ويشير سموه إلى أن فاسكو دي جاما عاد دون تأثير ما عدا تحقيق نجاحات في العلاقات التجارية، لكن في سنة 1504 خرجت حملة بقيادة السفاح الفونسو، الذي جهز جيشاً في سبع سفن اتجهت إلى شرق إفريقيا، وكان هدفه الأساس إغلاق باب المندب والخليج وتعطيل حركة التجارة، ليصل بها إلى البرتغال، ونصحه المحيطون به بأن يذهب إلى الخليج، تجنباً للعواصف، وهناك ارتكب مذابح عديدة ثم عاد إلى البحر الأحمر ثانية مستهدفاً المدينة المنورة، لنبش قبر الرسول، وتحويل مصب نهر النيل إلى البحر الأحمر، ليقتل مصر اقتصادياً، ولما وصل إلى جدة، ولم تكن لها أسوار، ولم يكن لشريفها حول ولا قوة، فدخلها لكن عاصفة طردته خارج البحر الأحمر، ليموت بعد ذلك في الهند.
مشاركة :