كان الناقد فتحي فرج هو الذي قدّم لنا أفلام لويس بونويل في “نادي السينما” بالقاهرة. وهو الذي كان يكتب عنها دراساته ويبحر في عالم هذا السينمائي الإسباني الذي اشتهر بأفلامه السريالية. لكن فتحي أتى إلى نادي السينما أيضا بفيلم بونويل “المنسيون” الذي أخرجه في المكسيك عام 1950، وهو عمل ينتمي على نحو ما، إلى “الواقعية الجديدة” ولا إلى السريالية. وكان بونويل قد فرّ من إسبانيا حيث شهد الكثير من المتاعب واستقر لعدة سنوات في المكسيك. مقاطع شعرية فتحي فرج يكتب أن بونويل في “المنسيون” يركز على الطبقة الدنيا في المجتمع المكسيكي، ويكشف بصراحة عن فكره السياسي الثوري وإن كان يقول “لست قادرا على فهم رأس المال” لكارل ماركس ولا أستطيع أن أجد عندي رأسا يستوعب الأرقام. وحينما يتناول المعدمين والكادحين فهو لا يفعل هذا من منطلقات ماركسية لكن من فهم ثوري سريالي، أو من عدائه للبورجوازية التي يرى فيها قمة التعفّن الاجتماعي. وقد سعدت كثيرا بإعادة الاعتبار إلى تحفة بونويل المنسية “المنسيون” مؤخرا التي عُرضت نسخة جديدة مرمّمة منها في عدد من مهرجانات السينما الدولية الكبيرة. المخرج البريطاني كين لوتش حضر في سبعينات القرن الماضي إلى نادي السينما بالقاهرة لعرض فيلمه الأول "كيث" وعندما يتناول فتحي فرج بالنقد فيلم بونويل الشهير “سحر البورجوازية الخفي” يقول إن بناء الفيلم لا يعتمد على حدث أو شخصية في موقف أو حبكة روائية بل هو في الواقع، ثلاثة مقاطع شعرية يفصلها ذلك المشهد الذي نراهم فيه يسيرون في الطريق. ويضيف أن الفنان يرفض أن يسجن نفسه داخل حدود الذاتية، ولكنه يبحث عن التأليف الفاعل أو المؤثر بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، أي إيجاد ذلك التواصل بين الذاتية المفرطة والموضوعية المغرقة في المحسوس. وحسب تعريف فتحي فرج في دراسته للفيلم نفسه، فإن السريالية “تسعى بشكل أساسي إلى تحرير الإنسان من قيوده الحالية التي تفرضها عليه المواصفات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة.. وأن السريالية تلجأ إلى الآلية وهي صيغة من صيغ التفكير ترفض تماما سيطرة قيم الوعي المطلقة على النفس البشرية، أي إطلاق ما تحت الوعي (اللاوعي عند فرويد). فتحي فرج -الذي درس الفلسفة أصلا- لا يكتب نقدا اعتياديا للفيلم، بل يبحر في تحليل فلسفة بونويل ليصل إلى نوع من التنوير أو الاستنارة الروحانية عندما يقول إن اللاوعي يزوّدنا بالأفكار والخبرات التي تتدفّق بقوة معبّرة عن الحقيقة الإنسانية الخفية، وهذه الآلية داخلية وذاتية، وهي حوار بين الإنسان الواعي والجزء المفقود من ذاته بشكل غامض والذي يتصل مع ذلك، في الخفاء بالكون. من أكثر الذين فهموا بونويل وتعاملوا معه طويلا في أفلامه، الكاتب الفرنسي جان كلود كاريير الذي كتب معه سبعة من أهم أفلامه (لا يزال كاريير على قيد الحياة في الثامنة والثمانين من عمره). ورغم أن أحمد الحضري رئيس نادي السينما كان شخصية محافظة فكريا، ولم يكن يميل لحركات التمرّد في السينما، وكان مغرما أكثر على سبيل المثال، بسينما المخرجين جون هيستون الأميركي وديفيد لين البريطاني. ومع ذلك أدلى بدلوه في “موضوع بونويل” عندما ترجم لنشرة نادي السينما بيانا سينمائيا راديكاليا أصدره جان كلود كاريير يقول فيه “الغموض هو أحد العناصر الأساسية في جميع الأعمال الفنية، ولكن غالبا ما يختفي هذا العنصر على الشاشة. إننا نجد أن المؤلفين والمخرجين والمنتجين يبذلون قصارى جهدهم لتجنب كل ما قد يسبّب لنا أي قلق أو اضطراب. إنهم يصرّون على أن تظل النافذة الرائعة التي تطل على عالم الشعر المتحرّر المنطلق، مغلقة تماما، ويفضلون القصص التي تستمر على نهج حياتنا العادية والتي تكرّر في كل مرة الدراما نفسها التي تساعدنا على أن ننسى الساعات المضنية التي قضيناها في أعمالنا اليومية”. والحقيقة أن فيلم “سحر البورجوازية الخفي” حظي باهتمام كبير في نشرة نادي السينما، فكتب عنه وترجم، الكثير من النقاد الذين بدوا منبهرين بسحر اكتشاف “سحر البورجوازية”. وفي مرحلة لاحقة كتبت عنه مرة أو أكثر في سياق تأمل تجربة بونويل التي ما زلت شخصيا أعتبرها إحدى أهم تجارب السينما في القرن العشرين. أما الناقد الراحل سامي السلاموني فقد اجتهد في فهم الفيلم وتحليله فكتب مقالا لنشرة نادي السينما بعنوان “محاولة للفهم” جاء فيه “إذا كنا نعرف أن بونويل من رواد السريالية في السينما، فمن الصعب تطبيق هذه المدرسة من مدارس الفن على فيلم كهذا، إلاّ إذا كانت السريالية تعني مجرد ‘عدم الفهم’ وهي أعمق من ذلك بكل تأكيد، ولكن بونويل لا يقدّم مع ذلك نوعا من سينما الشطحات الفكرية والفنية التي أصبح صغار الفنانين يلجأون إليها لتغطية فقرهم الفكري والفني في آن واحد، وليخدعونا بالعظمة الموهومة. إنه يقدّم على العكس، بناء متكاملا شديد الإحكام يتحوّل فيه الإغراب وعدم المعقولية (يقصد التغريب واللامعقول) إلى أسلوب حقيقي في تناول الفنان للعالم بحيث تصبح حتى الشذرات التي تبدو متنافرة ولا يربطها رابط موضوعي، أجزاء من رؤية واحدة وأسلوب تناول واحد شديد البساطة بقدر ما هو شديد التركيب”. حوار طريف كان نادي السينما في ذلك الزمان، يستضيف مخرجين ومؤلفين ونقادا من الخارج سواء لتقديم أفلامهم التي سيعرضها النادي، أو لاختيار بعض الأفلام من سينما بلادهم لعرضها بالنادي ومناقشتها مع الجمهور. وعلى ما أذكر كان هذا يتم بالتنسيق مع المراكز الثقافية الأجنبية في القاهرة، أي أن مصر في عصور الانغلاق والتشدّد وقناتين فقط في التلفزيون، وثلاث صحف يومية وغياب شيء اسمه شبكة الإنترنت الدولية، كانت أكثر انفتاحا على العالم ممّا أصبحت عليه اليوم في عصر السماوات المفتوحة والإنترنت. والرقابة على أفلام نادي السينما تكاد تكون غير موجودة بدليل عرض النسخة الكاملة من فيلم “كلاب القش “Straw Dogs لسام باكنباه الذي أثار غضبا شديدا في بريطانيا وتعرض لمقص الرقيب في أوائل السبعينات. أتذكر مثلا من الذين جاؤوا إلى نادي السينما في عصره الذهبي، المخرج اليوغسلافي ألكسندر بتروفيتش صاحب “قابلت الغجر السعداء” (حصل على أوسكار أفضل فيلم أجنبي)، وغونتر غراس مؤلف رواية “الطبلة الصفيح” التي استند عليها المخرج فولكر شلوندورف في إخراج الفيلم الذي حصل على الأوسكار. كما جاء كين لوتش وأتذكّره بوجه خاص في أحد عروض جمعية نقاد السينما المصريين عندما أتى به فتحي فرج مع فيلمه الأول “كيث”. من ضمن هؤلاء الذين جاؤوا إلى النادي الناقد الفرنسي الشهير ميشيل كلوني، وكان النادي قد كلف كلوني باختيار ثلاثة أفلام فرنسية لتقديمها في النادي. في عدد نشرة نادي السينما 11 أبريل 1973)، نشر سامي السلاموني عرضا تفصيليا لحوار دار بين الناقد الفرنسي كلوني وأعضاء جماعة السينما الجديدة. والحوار طريف للغاية ويعكس الهموم التي كانت تسيطر وقتها على شباب السينما المصرية والقضايا الجادة التي كانت تشغلهم في علاقة السينما بالجمهور وبالعالم، واهتمامهم بمعرفة ما يدور داخل صناعة السينما في فرنسا ومقارنة الحالة الفرنسية بالحالة المصرية. ولكن الأهم أن كلوني، وكان ناقدا بارزا شديد التأثير في الثقافة الفرنسية، أتى أيضا ليشاهد عددا من الأفلام المصرية الحديثة لكي يعدّ عنها ملفا خاصا في مجلة “سينما 73” الفرنسية. وقد لفت نظري بوجه خاص في حوار كلوني مع جماعة السينما الجديدة السؤال الأخير في الموضوع الذي نشر على ثلاث صفحات وهو: أول فيلم مصري شاهدته في القاهرة هو “شيء من الخوف” فما رأيك فيه، ودون أي حرج؟ وكان جواب كلوني “لا أعتقد أنه فيلم جيد لأنه مكوّن من عناصر مختلفة كل منها يذهب في اتجاه معين. وبالتالي يحدث ‘انفجار’ في الفيلم. وإذا كان المخرج قد وفّق في بعض المشاهد، وإذا كانت بعض المشاهد الأخرى قد عبّرت عن الاستبداد الذي عانى منه الشعب المصري في تلك الفترة، إلاّ أن الفيلم في النهاية هو مجموعة من ‘التابلوهات’ دون وحدة. وهو ما يمكن أن يوقظ عند المتفرّج نفس الإحساس الذي يحدثه فيلم ميلودرامي، لأنه يركز على علاقات درامية بين الشخصيات لا على الموقف الاجتماعي الذي اتخذه المخرج منطلقا للفيلم الذي بدا لي مسرحيا إلى حد ما، وإن كان هذا لا يمنع أنني وجدت فيه أشياء جيدة جدا وأشياء أخرى رديئة جدا!.” أما رأي كاتب هذا المقال فهو أن “شيء من الخوف” أحد أفضل أفلام السينما المصرية. ولا بد أن “الخواجة” كلوني شاهده طبقا لمنطق السينما التي كان يصنعها جان لوك غودار. من يدري!
مشاركة :