د. عبدالحميد الحسامي أبها علي فايع المشهد الشعري في السعودية مرتبك ويعيش حالة فوضى! الغموض في الشعر السعودي إبهام يَحُول دون الفهم! في كتابه «تحولات الخطاب الشعري في المملكة العربية السعودية» الفائز بالجائزة الثانية في مسابقة نادي الباحة الأدبي اعتبر الدكتور عبدالحميد الحسامي الكتابة في تحول الخطاب مدخلاً مناسباً لاستيعاب التحول وبنياته في الخطاب الشعري على مستويي الرؤية والبنية، وعدّ قراءة التحولات مغامرة لأنّها تخوض في تفاصيل التجربة الشعرية لدى أطياف التكوين الشعري لهذا الخطاب، وذكر الحسامي أنّ العينات التي اختارها للدراسة جاءت وفق معايير عديدة، منها تلبية نتاج الشاعر لمفردات الدراسة ومفاصلها، وانصباغ تجربته الشعرية بملامح الحداثة ما بعد الرومانسية في الأغلب، وتمثيل التحولات في مرحلة أو مراحل معينة، حيث أثبتت الدراسة استعجال الشعراء الشباب الكتابة واستسهال النشر، كما أنّ الغموض في الشعر وصل درجة الإبهام، وأنّ المشهد الشعري في السعودية مرتبك ويعيش حالة فوضى. تحولات الخطاب لماذا الكتابة عن تحولات الخطاب الشعري في السعودية بالتحديد؟ ** هذا الكتاب «تحولات الخطاب الشعري في المملكة العربية السعودية» له سياق معين، فقد جاء إعلان جائزة نادي الباحة الأدبي لهذا العنوان أو ما يتضمن هذا العنوان- فرصةً سانحة لأنْ أعزز قراءاتي في المشهد الشعري السعودي المعاصر، التي تبلورت مفرداتها أثناء تدريسي للأدب والنقد في جامعة الملك خالد، وتفاعلي مع الفضاء المعرفي بحكم عملي في المملكة من خلال الندوات والملتقيات والمؤتمرات، لقد كانت «تحولات الخطاب الشعري» بالتحديد لأنه مدخل مناسب لاستيعاب التحول وبنياته في الخطاب الشعري، على مستويي الرؤية والبنية، وهو مدخل من شأنه أن يفتح كوى مهمة في قراءة هذا المشهد الذي ما يزال يعتمل ويتشكل ويرفد بروافد مختلفة، في ظل تحولات الإنسان المعاصر. أنت تقول إنّ الكتابةَ عن تحولات الخطاب الشعري المعاصر ضربٌ من المغامرةِ التي يخوضُها الباحثُ، فلماذا الكتابة عن التحولات في خطاب الشعر المعاصر تعدّ مغامرة؟ ** بالتأكيد أقول ذلك عن وعي بمدى ما يتعرض له الإنسان المعاصر من هزات تجعله يعيد النظر فيما حوله ومن حوله، تحولات تجعل الإنسان -فكيف بالمبدع- في ذهول، وأسئلة مركبة تتوغل حتى تلامس كينونته، وهويته في هذا الخضم المتلاطم، هو مغامرة لتشابك تلك التحولات من ناحية، ولأن قراءة التحولات تقتضي أن يخوض الباحث في تفاصيل التجربة الشعرية لدى أطياف التكوين الشعري لهذا الخطاب، هي مغامرة لأن الولوج إلى أعماق النصوص واستنباط القيم الفنية والرؤيوية من الداخل الشعري وليس من السياقات الخارجية، معناه صبر ومصابرة في حضرة تلك النصوص، لتفكيكها لتبوح بما يسعف في تمكين الدراسة من تحقيق فرضيتها العلمية. المشهد فيه من الثراء الأفقي والرأسي، وفيه من الوعورة والارتباك، ما يعزز من شعور الباحث بالمغامرة. كتبت في هذه الدراسة عن (50) شاعراً وشاعرة، وقرأت في (72) ديواناً ومجموعة شعرية. هل تعتقد أنّ هذه العينة كافية لأن تمنحك كباحث القدرة على تكوين فكرة عامة عن تحولات الخطاب في الشعر السعودي؟ ** إذا كانت تلك هي العينة المنتخبة فإن ذلك يعني أن القراءة انشغلت بمساحة أكثر شساعة، وهي التي منحتنا الرؤية والقدرة على الانتقاء، ولا شك في أن العينة المختارة -دواوين وشعراء- هي عينة كافية، ولولا استشعار التحدي ما تمكن باحث من إنجاز دراسة عميقة من خلال عينة واسعة بهذا القدر، إن الطبيب يكتفي بأخذ قطرة من الدم لتمنحه قراءة لصورة الدم كاملاً في جسم الإنسان فالعينة أهم شيء أن تكون دالة. لقد كانت العينة وافية وكافية، لتحقيق مفردات الدراسة، والاستجابة لفرضية البحث، وكفيلة أن تمنح القارئ خارطة جلية للمشهد الشعري، وهذا لا يعني أن العينة هي التي تمثل التحولات دون سواها لكن تلك العينة في رأيي تعد كافية لقراءة تحولات الخطاب الشعري في المملكة العربية السعودية. أنت تقول إنّك تعقّبت التحولات، هل لنا أن نتعرّف منك على مستويات هذا التعقّب لدى الشعراء الذين أخضعت شعرهم لهذه الدراسة؟ تعقبت التحولات على مستويين: المستوى الأول يتمثل في تحولات الرؤية وهذا جانب طالما أغفله كثير من النقاد؛ إذ يركزون على تحولات البنية الفنية، ويهملون تحولات الرؤية. تحولات الرؤية الخاصة بالشاعر الحداثي للذات، وتحول موقعها، وموقفها، فالشاعر موقف، ومن لم يمتلك موقفًا ما لن تجد له إبداعًا أصيلاً، درسنا تحولات الرؤية وكيف يتجلى ذلك في الخطاب الشعري، ورؤيته لمفهوم الإبداع، ورؤيته للتحولات التي طرأت على المجتمع، ونزوعه نحو التصوف والرؤى الإشراقية، كل تلك تحولات طرأت على خطاب الحداثة، وتجلت فيه، وهي تحولات تتواشج مع القسم الثاني المتمثل في تحولات البنية الفنية: التي نفذت دراستنا إلى مفاصل منها ما كان غائبًا عن كثير من الدارسين. تناولت فيها: الإيقاع التأويلي، و حوار الأشكال الإيقاعية والتدوير، وهي ظواهر لصيقة بالخطاب الشعري الحداثي، فضلاً عن قصيدة النثر، كما تجلت التحولات في بنية الخطاب من خلال اللغة التي شهدت تحولات مذهلة، وكذلك الصورة، التي أخذت تتشكل في منأى عن المفهوم التقليدي للصورة الذي يركز على الصورة الجزئية، لقد غدت الصورة ممتدة، مشهدية، وأحيانًا تمتح من عوالم اللاوعي فتتشكل صور سريالية غريبة، وتناولتْ الدراسة التشكيل البصري -وعلاقته بالدلالة الذي يستقي حضوره من هذا الفضاء المفعم بالصورة التي تهيمن على إدراك الإنسان المعاصر، فما بالك بالمبدع. المشهد الشعري هناك دراسات سابقة تناولت حركة الشعر المعاصر في المملكة العربية السعودية، فبماذا تفرّدت هذه الدراسة؟ ** دراستي استمدت قوامها من عمليتي الاتصال والانفصال، الاتصال بالدرس النقدي للمشهد الشعري في المملكة، وفي الوطن العربي بوصفه مشهدًا متكاملاً، والانفصال عنه، فانتحيت منحى خاصًا اتسم بشمول التناول لمعظم التحولات من ناحية، كما حاولت أن تسبر أغوار تحولات الرؤية، وأن تتلمس العلاقات الكامنة بين الرؤية والبنية بوصف العملية الإبداعية إفرازًا لتلك العلاقة، إن كثيرًا من الدراسات تركز على البناء الخارجي للنص، وتغفل الجانب الرؤيوي، والشعر الحداثي هو شعر رؤية وكشف واكتشاف، لقد أوغلت الدراسة في استنطاق النص الشعري من داخله وقراءة أسراره، وحاولت أن تجوس في مناطق مهمة، في الرؤية وفي الإيقاع، وفي اللغة والتصوير، إنني أزعم أن دراستي أكثر شمولا وأغنى عينةً، وأكثر إصغاء لأعماق الخطاب الشعري في تكامله في إطار تجربة الشاعر الواحد، وفي إطار تجارب الشعراء السعوديين. في فصل الرؤية يلحظ القارئ لكتابك أنّك أقحمت أسماء ذات تجربة شعرية مختلفة نوعاً ما أو متواضعة داخل مبحث (الإبداع) هل لجأت إلى ذلك لتفي بشروط الجائزة أم أنّ لك رؤية أخرى تختلف نوعاً ما عن رؤيتي كقارئ؟ ** الاختلاف في التجارب أساس ثراء للقراءة، ومعياري في تناول التجارب الشعرية ينطلق أساساً من جوهر إحساسي بضرورة الوفاء بفرضية الدراسة، وركزت الدراسة على النصوص التي تقترب من تمثيل الظاهرة، ولا شك في أن محاور الجائزة كانت عاملاً مهمًا في توجيه معالم الدراسة لكني تمردت عليها، وأشعر أني حققت انتصاري في الانفلات من قبضة الشرط الإداري للوفاء بالشرطين: المنهجي، والمعرفي. ولو رجعتَ إلى تلك الشروط والمحاور التي وضعتْها الجائزة لأيقنتَ أنت بما أقول، لقد كانت المحاور أشتاتًا، مع ذلك أحترم قراءتك وأعتقد أنّ القارئ لن يعدم ثقوبًا في دراستي، فما قدمته أنا هو اجتهاد، يصيب، ويخطئ، يطمح، ويقصر عن بلوغ طموحه، ومتى كان للعمل البشري الكمال؟!!! قصيدة النثر في مبحث قصيدة النثر كان لديك انطباع نهائي بأنّ شعراء قصيدة النثر برغم نجاحهم النسبي ـ كما تقول ـ في التقاط تفاصيل الحياة، لكنهم أمام مسؤولية كبيرة في الانتقال بقصيدة النثر من طور التجريب الباهت إلى التجربة العميقة التي يجب أن تتصل بهموم الإنسان، هل يعني هذا أن قصيدة النثر لدينا ما زالت في طور التجريب؟ ** يبدو من خلال قراءتي لتحولات الخطاب الشعري في المملكة أن الشباب – في كثير من تجاربهم- يستعجلون الحضور والشهرة؛ من خلال التسرع في النشر، والكتابة العجلى، فلا يخدمون تجاربهم الشعرية؛ ينشغلون بالتجريب، ويستسهل كثير منهم المسلك النثري، الذي يأتي لديهم دون اكتناز بالرؤية، ودون حذق لتقنيات الكتابة، فتسقط التجارب في فخ التجريب، بدلاً من الانشغال بعمق التجربة. إنّ الإبداع –شعريًا كان أو سرديًا- يتألق بقدر غوصه في أعماق الرؤية، وانبثاقه عن عمق التجربة . أنت تقول في دراستك إنّ الغموض لدى الشاعر السعودي المعاصر يحوّل النصّ إلى طلسم يصعب تفكيكه أو اكتشاف معناه ، إضافة إلى أنّه تعقيد والتواء لفظي يبدّد دلالة الشعر ومعناه. هل هذا الحكم علمي، أم أنّه جاء نتيجة طبيعية لنماذج محدودة لشعراء محدودي التجربة؟ ** لم يكن حكمي عامًا على كل النصوص التي تميزت بالغموض، الغموض الشفاف الذي لا يحجب دلالة النص وإنما يمنحك في كل قراءة إمكانات جديدة هو الغموض الإيجابي الشعري، أما حين يغدو الغموض حجابا يحول دون الفهم، ويصل إلى الإبهام فهو غموض سلبي، يحيل على عجز الشاعر عن الالتقاط، وارتباك في القدرة على التعبير، وضبابية في الرؤية، وقد يكون نوعًا من التعالم، ومحاولة إبهار المتلقي، إنه سمة عجز، كما أنّ الوضوح مؤشر قصور، وسطحية في التجربة. النص الجميل- كاللوحة الجميلة- يمنحك ـ كلما أمعنت فيه النظر ـ أسرارا جديدة، يجعلك مسكونًا بالدهشة، وحين تغيب الدهشة عن النص يكون قد فقد شرط وجوده. الدراسة تقول إنّ المشهد الشعري في المملكة يعيش حالة من الارتباك والفوضى، لا سيما لدى الشعراء الشباب، ودليلك على ذلك أنّ بعض التجارب ما زالت تائهة في مسالك التجريب حين لا تصغي لأسئلتها الخاصة، أوحين تسعى لاستنساخ تجارب الشعراء البارزين على المستوى المحلي، كالثبيتي والدميني، والصحيِّح. ألا ترى أنّ هذا حكم قاس على شعراء يسعون إلى التحرّر من تبعية أسماء بعينها، لها تجربتها المختلفة التي تسعى لترسيخها؟ ** هو حكم قاس بالطبع لكنه نابع من اجتهاد واستبصار قائم على درس وتمحيص، كثير من الشباب يتقمصون تجارب سواهم، يلبسون حلل غيرهم، صوت الثبيتي يضج في تجارب كثير من الشباب الذين لم يتساءلوا كيف وصل الثبيتي إلى بصمته الخاصة، ولماذا غدا صائحا محكيا بحسب المتنبي وليس صدى؟ صوت الصحيح يستلب تجارب عدد من الشباب كذلك؟ هناك كسل لدى المبدعين اليوم، يصرفهم عن تعشق عوالم القراءة، وتمتين الوعي، يلهث كثير منهم نحو تجارب الآخرين يتسللون ويتسولون، والأجدى أن ينصرفوا إلى أعماقهم كي يبحثواعما يمكن أن يحقق خصوصيتهم، وإذا أخذوا فليتمثلوا ويعيدوا إنتاج الآخرين من خلال رؤية خاصة، كما فعل الثبيتي والصحيح مثلاً، وقد اعترفت الدراسة لذوي البصمات الخاصة بحضورهم ومحاولة انتزاعهم لموقعهم الخاص، الشاعر إن لم يشكل بصمته الخاصة، يكتب بأقلام الآخرين، ويرى بأعينهم، وهو ما لا يليق بمبدع. المبدع من يدمن الإصغاء لعوالمه الخاصة، لأسئلته النابعة من صميم تفاعله مع العالم، المبدع من يحفر في النص وبالنص بحثًا عن كينونته، عن فرادة تجربته. إن ملحوظتي هذه دعوة ضمنية لكل الشعراء وخصوصًا الشباب لأن يكونوا أكثر قراءة وأكثر تحسسا لتضاريس ذواتهم، أن يقرأوا الشعراء الآخرين لا لمحاكاتهم وإنما لتمثل تجاربهم وتجاوزها لتكون تجاربهم ممهورة بتوقيع الذات. خمس شاعرات لماذا كانت نماذج النساء الشاعرات في هذه الدراسة قليلة، لم تتجاوز أربع أو خمس شاعرات فقط؟ يبدو لي أن نجاح المبدعة السعودية في السرد قد استقطب اهتمام المبدعات لتلك العوالم، وهي عوالم قريبة من طبيعة الأنثى، التي تبوح وتسرد فتتمكن من الإغراء والإغواء إنها شهرزاد التي تمكنت بالسرد أن تنسي شهريار شهوة الموت، وتلقي به في حياة السرد وسرد الحياة. إن المتأمل في التجربة الشعرية للشواعر في السعودية وفي سواها من الأقطار العربية، يجد أن التجارب الشعرية المتألقة لا تزال شحيحة، وشحيحة جدًا، إن قلة النماذج النسوية في دراستي تأتي من ندرة حضورها في المشهد الشعري، فلم نجد إلى اليوم شاعرة تضاهي الثبيتي أو القصيبي، أو الدميني، أو جاسم الصحيح، لكنها في الرواية تأخذ مواقع متقدمة تبز مواقع الروائيين. غياب الأسماء لماذا غابت أسماء كبيرة كمحمد العلي وغازي القصيبي ومحمد زايد وأحمد الملا وعلي الحازمي وإبراهيم زولي عن هذه الدراسة، في الوقت الذي حضرت فيه أسماء محدودة التجربة والكتابة؟ ** ربما لأنّ العينة التي تأتت لي كانت كافية لتغطية محاور الدراسة، أو لأن الطابع الغالب على تجربة ما لا يتفق وزاوية التناول، ومن ذلك شعر القصيبي، والعلي، مثلاً، كما أن كثيرا من التجارب الشعرية الجديرة بالتقدير لم أوفق في حضورها في متن دراستي لعدم قدرتي في الحصول عليها، وأرجو أن أجد فرصة أخرى لتناولها.
مشاركة :