القيم المدنية وإصلاح مناهج التعليم

  • 12/6/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يعدُّ التعليم أحد الركائز الأساسية في رؤية الدولة طوال تاريخها، فالمنظومة التعليمية إحدى منظومات المجتمع الرئيسية التي توظفها الدولة وتوليها عنايتها أدبيا، ورعايتها ماليا واقتصاديا، كونها تسهم في تقدم البحث العلمي والرقي الحضاري، وبحسبها أداة تفاعلية تخرِّج أجيالَ العلم والكوادر المؤهلة لتسلم زمام التنمية المستقبلية، فهي تغرس القيم أخلاقيا، وتنمي المدارك أدبيا، وتصقل العقول علميا، ومن هذا المنطلق نظَّم مركز «البحوث والدراسات السياسية وحوار الثقافات» بالقاهرة يوم الثلاثاء 15 أكتوبر 2019، ندوة بعنوان: «القيم المدنية والإصلاح التعليمي»، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة؛ للبحث في مستجدات المنظومة التعليمية، والجهود الفكرية للإصلاح التعليمي، وبحث الرؤى التعليمية الخلاقة والقيم المدنية التي تصقل العملية التعليمية بما يتواكب مع رؤية مصر للتنمية المستدامة 2030. وشهدت هذه الندوة حضور بعض النخب ذوي الخبرات التعليمية والمهنية، وتنوعت مجالاتهم فحاضر فيها ممثلون عن وزارة التربية والتعليم، ووزارة الثقافة، ومشيخة الأزهر؛ وعدد من الأكاديميين أصحاب الاختصاص في هذا الشأن، والذين لهم دراسات وخبرات في البحث العلمي والأكاديمي والعملية التعليمية وما يدور في إطارها. وقد أدار هذه الندوة الدكتور مازن حسن، مدير مركز البحوث والدراسات السياسية وحوار الثقافات؛ إذ افتتحها مرحبا بالحضور والمتحدثين، متمنيا أن تؤتي الندوة ثمارها النظرية والتأصيلية في أرض الواقع، وأشار في كلمته الافتتاحية إلى أن موضوع التعليم أثار اهتمام الفلاسفة الأوائل؛ ومنهم أفلاطون، الذي وضع أسسا لتطوير التعليم حسب إمكانية كل فئة في المجتمع، وسلط الدكتور مازن الضوء على تجربتين ناجحتين في غرس منظومة القيم في التعليم، أولهما: عربية تتمثل في التجربة الإماراتية التي صممت نظاما تعليميا أسهم في مخرجات قيمية وعلمية وأدبية ظهرت ثمارها في شخصية المواطن الإماراتي؛ وثانيهما: تجربة غير عربية تمثلت في النموذج الصيني؛ إذ دشنت ثورة ثقافية تعليمية بنكهة علمية وأدبية من خلال تعزيز القيم الوطنية في سلوك المواطنين، ووفقا لهذه التجربة صار لكل مواطن عدد من الدرجات المعينة وفقا لسلوكه، وهذه الدرجات السلوكية تحدد مكانته في المجتمع. وتحدث الدكتور رضا حجازي – رئيس قطاع التعليم بوزارة التربية والتعليم- منوها على أهمية التغيير في التعليم مع تغيرات الحياة وما يشهده العالم كالثورة الصناعية الرابعة والتحول الرقمي، وأشار إلى أن مشكلة التعليم في مصر تتمثل في كونه منصبا على الجانب المعرفي وليس القيمي، ومشيرا إلى أن المناهج الحالية لا تلبي أهداف التنمية المستدامة 2030، كما هو المأمول في مجال التعليم، ومعتبرا أن غرس القيم ليس بالمهمة السهلة، ومذكرا بأن المدرسة الجديدة في خطة الوزارة ستكون هي المحرك الأساسي لهذه القيم حتى يتم بناء الإنسان. واستعرض حجازي في كلمته خطة الوزارة لتضمين القيم في المنظومة التعليمية؛ إذ أشار إلى أنه جرى تطبيق أسلوب تعليمي لمرحلة الروضة والسنوات الابتدائية الثلاث الأولى، يعتمد على غرس القيم، فضلا عن إزالة هاجس الدرجات، فتقييم التلاميذ في هذه المراحل يتم وفقا لمستوى مرغوب، إما يحققه الطفل أو يتخطاه أو بالكاد يقترب منه أو لا يحققه، وبناء على ذلك يحدد مستوى الجهد المطلوب مع كل طالب، كما أن الوزارة عملت على تجهيز المباني الدراسية وحجرات الأنشطة بما يسهل ممارسة النشاط الأساسي في غرس القيم، إضافة إلى التدريبات التي تُعطى للمعلمين من أجل تأهيل المعلم بما يتوافق مع متطلبات التعليم في المرحلة الحالية، وكذلك أهمية وجود القدوة للطلاب حتى يتم تأكيد القيم وترسيخها. وفي السياق ذاته؛ أكد الدكتور سعيد المصري– مستشار وزير الثقافة- أن بناء الإنسان ثقافيا وتعليميا هدف استراتيجي لرؤية مصر 2030، وأشار إلى أن بناء الإنسان يتيح كل الفرص والسبل لتعزيز النسيج الاجتماعي والثقافي المشترك في المجتمع، وهذا يتطلب وجود مبادئ تتمثل في منظومة القيم المستهدف غرسها في المواطن المصري، وضرورة إدراك أهميتها والإيمان بها والعمل بمقتضاها، ونوه بأن كل وظائف الدولة تعمل على بناء الإنسان باعتبار أنه محور التنمية ورائدها، ودور الدولة يتوقف على وجود مجتمع قوي تتوافر فيه الصفات المثلى مثل: «احترام القانون بدلا من العرف- واللجوء إلى المؤسسات الرسمية بدلا من الموازية- والحفاظ على المال العام والمرافق العامة- وأن يعلو الانتماء الوطني على الانتماءات التحتية- والاندماج الاجتماعي وعدم التهميش- واحترام الآخرين والإيمان بحقوقهم- وارتفاع مستوى الثقة الاجتماعية- وتزايد الشعور بالأمل في المستقبل». ودلل المصري على أن البيانات الحالية تؤكد وجود ضعف مستوى الثقة المجتمعية، وانتشار الثقافة التمييزية، واتساع فجوة التطلعات نحو السياسات العامة؛ مؤكدا وجود عدة مقترحات لبناء الإنسان المصري والشخصية المصرية، وبناء رأس المال الاجتماعي، إضافة إلى تشكيل قيم إيجابية محورية سواء على مستوى القيم الذاتية، أو الجماعية أو المجتمعية، وبيَّن أن ثمة تحديات تقف عائقا في سبيل تنفيذ هذه المقترحات، منها: السياسة التعليمية التي تعتمد على الجانب المعرفي دون وجود جانبي المهارة والتنشئة، ومعضلة العلاقة بالتراث نظرًا إلى تعدد روافد التراث المصري؛ فأي تراث سيمثل منبع القيم؟! إضافة إلى تعارض التعليم القائم على الحجة مع التعليم القائم على القيم المسبقة. أما الدكتور عبدالدايم نصير مستشار شيخ الأزهر لشؤون التعليم فقد تحدث عن واقع القيم المصرية المتراجعة في التعليم بصورة خاصة، وفي المجتمع على وجه العموم، مؤكدا أن التعليم الأزهري وحده كان قادرا على غرس القيم وبناء الإنسان، وأن ما حدث عام 1961 من إدخال المعارف المدنية في التعليم الأزهري باعتبارها مواد ثقافية وليست علمية، جعل الطلاب يستهينون بها، ما فتح الأبواب لتسرب قيمة الغش المرفوضة في المجتمع. وبيَّن نصير أن اهتمام الدولة بفتح معاهد أزهرية جديدة أدى إلى إقبال كبير على بناء المعاهد في الأماكن غير مؤهلة للتعليم من قبل الأهالي حتى يوفروا فرص عمل لأبنائهم غير المؤهلين للتدريس، وأشار إلى أنه في ظل غلاء المعيشة اضطر الكثير من علماء الأزهر للسفر إلى الخارج لتحسين مستوياتهم المعيشية، وهذا أحدث فراغا في التعليم السليم بالمعاهد الأزهرية. ونوه بجهود الأزهر مُبيِّنًا أنه لم يدخر وسعا في الفترة السابقة، فعمل على توفير استراحات للمعلمين في المحافظات المختلفة لكي يؤدوا أدوارهم بنزاهة، فضلا عن محاولة التخلص من هاجس الدرجات لدى الطلاب في التعليم، إضافة إلى إعادة الاهتمام بإرسال البعثات الأوروبية لاكتساب الخبرات الحديثة في التعليم. وتناولت الدكتورة نرمين عز الدين، المدرسة بكلية الآداب جامعة القاهرة، التجربة اليابانية في التعليم مؤكدة على أن اليابان تهتم بالقيم حتى في أصعب الظروف التي تواجهها، فأشارت إلى أن اليابانيين بعد زالزال تسونامي 2011 كانوا يصطفون في نظام أمام محال السلع الغذائية رغم علمهم بأن السلع الغذائية سوف تختفي من السوق خلال أيام معدودة، مشيرة إلى أن هذا السلوك هو ثمرة النظام التعليمي الناجح الذي غرس القيم الحضارية لدى اليابانيين، وبيَّنت أن هذا التعليم الناجح في اليابان يعود إلى عصر «توكو جاوا»، الذي حرص على تعليم كل طبقة ما يناسبها من معارف وقيم، فطبقة الساموراي لهم قيم وتعليم يتمثل في فنون القتال والإدارة، وطبقة المزارعين يتعلمون أساسيات القراءة والكتابة. وجاءت فترة «ميجي جيداي» لتكمل نهضة التعليم، وفيها عملت اليابان على غرس مجموعة من القيم كأهمية الولاء للأرض، والوعي القومي، والانفتاح على العلوم الغربية واستيرادها، ولكن بروح يابانية، واحترام الرأي الآخر، وغير ذلك من القيم الحضارية، إضافة إلى مشروع «توكاتسو»، الذي يهتم ببناء الشخصية من خلال الأنشطة، وهو ما بدأت مصر في الاستفادة منه من خلال المدارس اليابانية التي تعتمد على تفعيل الأنشطة، وإشراك أولياء الأمور في العملية التعليمية بالمدرسة. وبدورها استعرضت الأستاذة مها خليل بعض نتائج رسالة الدكتوراه الخاصة بها والمزمع مناقشتها قريبا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والتي بعنوان: «القيم المدنية في التعليم المصري: نتائج بحثية»، مشيرة إلى أنها استهدفت قياس فجوة الجودة في التعليم، من خلال سؤال متلقي الخدمة من المدرسين، ومن ثم الوصول إلى نتائج تمهد الطريق لتحقيق حوكمة مدرسية حقيقية يشارك فيها الطالب والمعلم وولي الأمر، وتوصلت الدراسة إلى أن معظم نتائج العينة تشير إلى عدم ظهور معرفة حقيقية بمنظومة القيم المدنية، وأن هناك تفشيا لقيم العنف والتعصب والتنمر، وغياب قيم التسامح، وأن أهم القيم الجيدة التي يجب تأكيدها في المناهج الدراسية لإصلاح منظومة القيم هي الصدق والأمانة وتحمل المسؤولية واحترام الوالدين. وافتتح رئيس الندوة الدكتور مازن حسن في نهايتها باب التساؤلات والنقاشات حول الموضوعات التي تطرق إليها المتحدثون في هذه الحلقة النقاشية، وجاءت هذه التساؤلات لتنم على الثراء المعرفي المنبثق من هذه المداخلات، فمنها ما جاء مستفهما عن الآثار المحتملة من التغيير المستمر لنظام التعليم في مصر؟! وآخر جاء حول طبيعة القيم التي سيتم غرسها: هل هي قيم نبيلة في مطلقها أم قيم وافدة؟! فيما تساءل أحد الحاضرين عن أي تراث ستستمد منه منظومة القيم المدنية الجديدة؟! واستفسر أحدهم عما يثار من إلغاء نظام التنسيق في ظل تطلعات الأهالي والطلاب إلى كليات بعينها؟! وعقب آخر على كلمات المتحدثين بتأكيد أهمية دور الأسرة في تطوير منظومة القيم، وأيضا دور الجامعات الخاصة في تطوير التعليم الجامعي. ولقيت هذه التساؤلات إجابات مختصرة وشافية من قبل الدكتور رضا حجازي؛ الذي بيَّن أن التغيير مستمر ومتوالٍ في النظام التعليمي، وأكد أن التغيير مطلوب في ظل عالم يتسم بالتغيير والتطور السريع، لكن نوه بأن التغيير المنضبط هو الطريق الصحيح للتغيير وليس كثرة التغيير، التي قد تضر بمصر وتعطل حركة التنمية، مؤكدا أن النظام الذي يتم بناؤه الآن يعتمد على تعليم الطالب على تطوير قدراته الذاتية وفقا لمقتضيات الحال، أما فيما يخص طبيعة القيم فقد أكد الدكتور سعيد المصري أن طبيعة القيم يجب أن تغرس آخذة في الاعتبار علاقة المدرسة بالمجتمع، وعلاقة الدولة بالعالم، وأكد أن جدلية التراث الذي تستمد منه القيم لا تزال مستمرة، لكن القيم الجيدة سيتم استيرادها من أي رافد من روافد التراث طالما أنها ستسهم في تنمية الدولة تعليميا.

مشاركة :