تشهد منطقة شرق الفرات السورية صراعات وخلافات مستمرة بين الأطراف المسيطرة، رغم الاتفاقات المتعددة، إذ لم يتم تثبيت خرائط للنفوذ، ولا ضمانات حقيقية لتلك الاتفاقات. فعملية نبع السلام التركية تمت بموافقة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بعد أن قرر سحب قواته من سوريا، وترَك المنطقة لروسيا، التي بدورها سيطرت على قواعد كانت للقوات الأميركية، وبنت أخرى، وأصبحت تسيطر على مطار القامشلي، بعد أن ثبتت حدود عملية نبع السلام مع تركيا، ونشرت قوات “الهجانة” السورية التابعة للنظام السوري على طول الحدود، وتوسطت بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية لإنجاز توافقات عسكرية الطابع، فيما قرر الأميركان الاحتفاظ بقوات بالقرب من آبار النفط والغاز، ومنعها عن النظام وروسيا، مع بقاء السيطرة الجوية لقوات التحالف الدولي، وشاعت أنباء عن توغل إيران في ريف الحسكة، عبر تجنيد عناصر من المنطقة، لمنع خسارتها الممر الاستراتيجي إلى لبنان. إن أنقرة لا تكتفي بحدود عملية نبع السلام التي حصلت عليها، فهي تسعى للحصول على دعم أوروبي لإعادة إعمار “المنطقة الآمنة”، وعودة اللاجئين إليها، كما تقول، الأمر الذي ما زالت حكومات أوروبية تعارضه، بسبب عدم رضاها عن سيطرة تركيا على مناطق كانت بحوزة قوات سوريا الديمقراطية، التي استبسلت في إنهاء تنظيم داعش، في الوقت الذي تحاول تركيا إقناع كل الأطراف بالموافقة على تصنيف تلك القوات بالإرهابية. هذا عدا عن خلاف أوروبي- أميركي مع تركيا الشريك القوي في حلف الناتو منذ 1952، بسبب شرائها منظومة أس- 400 مع روسيا، والتي تتعارض مع الدفاعات الجوية لحلف الأطلسي، وتهدد مقاتلات أف- 35، وقد أعلنت الولايات المتحدة، في يوليو الماضي، إبعاد تركيا عن برنامج تطوير طائرات أف- 35، وهددت بفرض عقوبات عليها. لم تجد التنظيمات الكردية العاملة في قوات سوريا الديمقراطية بدا من اللجوء إلى روسيا، بعد أن شعرت بتخلي الأميركيين عنها. روسيا بدورها توسطت بينها وبين حكومة دمشق، وعقدت اتفاقات ثنائية بين الطرفين، ذات طابع عسكري؛ حيث انتهت المرحلة الأولى منها بانتشار الجيش السوري على طول الشريط الحدودي، من مدينة منبج بريف حلب الشرقي، غرب الفرات، وصولا إلى ديريك ومعبر سيمالكا الحدودي مع بشخابور التابع لإقليم كردستان العراق. تنفذ حكومة دمشق رغبات روسيا في شرق الفرات، وما يتعلق بالتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية، لكنها تريد من تلك القوات أن تخضع لإمرتها، وعودة سيطرتها المدنية والعسكرية كاملة، الأمر الذي يتناقض مع الإدارة الذاتية المعلنة من الطرف الكردي. بينما يرفض الأكراد في قوات سوريا الديمقراطية، على لسان القيادي البارز مظلوم عبدي، مشاركة قوات النظام في معارك إدلب، ومعارك طرد الأتراك من سوريا دون اتفاق سياسي شامل يعترف دستوريا بهياكل الإدارة، وخصوصية قوات سوريا الديمقراطية. تنظر موسكو إلى مجمل التوافقات مع الحليف التركي، في إدلب وفي شرق الفرات، على أنها آنية، فهي ترى أنها صاحبة الحق الأوحد بالنفوذ في سوريا، لذلك لا تطمئن لها أنقرة، وتسعى بدورها إلى تحالفات مع الأميركيين، لتقوية موقفها من روسيا، ومع الأوروبيين كذلك. وعقد اجتماع رباعي؛ تركي- ألماني- فرنسي- بريطاني، حول ما يخص سوريا، وذلك على هامش اجتماع دول حلف الناتو، اتفقوا فيه على ضرورة وقف هجمات النظام في إدلب، ودعم عملية اللجنة الدستورية، وأهمية القرار الأممي 2254. وتسعى تركيا في نفس الوقت إلى عقد القمة الرباعية الثانية في إسطنبول، وقد أعلن عنها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في فبراير المقبل، مقترحا أن تكون دورية كل سنة، لتشكيل حلف يقوي موقفها في الملف السوري. تتعامل روسيا مع ملف شرق الفرات كسائر مناطق نفوذها، حيث تعزز وجودها العسكري فيه، عبر اتخاذ قواعد ومقرات عسكرية لها؛ فقد أحكمت السيطرة على مطار القامشلي، وأرسلت قافلة ضخمة تابعة للشرطة العسكرية الروسية تتكوّن من مصفحات وشاحنات وصلت إلى المطار، ورافقتها قوات كردية في الطريق الواصل من بلدة عين عيسى إلى المطار، كما أرسلت إلى المطار منظومة “بانتيسير” الدفاعية قصيرة المدى. وهي تريد أن تكون هذه القاعدة نقطة انطلاق أساسية لمروحياتها التي سترافق الدوريات العسكرية في المناطق الحدودية، بحجة بعد قاعدتي حميميم وطرطوس عن المنطقة، ومن المتوقع أن تلزم الحكومة السورية بتوقيع اتفاق استئجار طويل الأمد لمطار القامشلي، على غرار ما فعلت في حميميم وطرطوس. أما الأميركيون، فقد أنهوا ترددهم بشأن الانسحاب من شمالي شرق سوريا، وأعلنوا انتهاءه، على لسان وزير الدفاع، مارك إسبر، مع بقاء 600 جندي أميركي موزعين في خمس قواعد، أربع منها شمالي شرق سوريا؛ ما يعني أن الولايات المتحدة لا تهتم بنفوذ لها في سوريا. لكن الموقف الأميركي لا يزال قائما على منع عودة تنظيم داعش، ومنع إيران من التوغل في سوريا، إضافة إلى استمرار العقوبات على النظام السوري، ومنعه من الاستفادة من مصادر الطاقة في المنطقة، واستمرار الفيتو على عملية إعادة الإعمار دون التوصل إلى حل سياسي. وفي حين تتصرف بقية الأطراف وكأن الولايات المتحدة ستنسحب كليا، وفق توجهات الرئيس ترامب، المأزوم داخليا، والذي ينتظر انتخابات رئاسية يعول فيها على إرضاء ناخبيه بالإيفاء بوعوده حول الانكفاء، والانسحاب من الشرق الأوسط، يستمرّ وجود الولايات المتحدة في سوريا، وإن كان بعدد محدود من الجنود، وهو ما يعني أنها ما زالت ممسكة بخيوط اللعبة، وأن لا قدرة لروسيا على تمرير حلولها في سوريا دون موافقة أميركية. ويتواصل تهديد أميركا، ومعها بقية أعضاء المجموعة المصغرة (بريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية ومصر والأردن)، بسحب دعمها لملف اللجنة الدستورية، إذا لم يتحقق إنجاز في هذه اللجنة، مع استمرار عرقلة النظام لها، وإصراره على نقاش ملفات لا علاقة لها بالدستور، حسب قول المبعوث الأممي، غير بيدرسون.
مشاركة :