ستكون منظمة التجارة العالمية بحلول موعد 11 ديسمبر الجاري على مشارف أسوأ الأزمات التي قد تزيد في حجم الخلافات داخلها منذ تأسست عام 1995، حيث من المرجح أن يدخل هذا الهيكل في مرحلة الفراغ القضائي إن نجحت الضعوط الأميركية في فرض تصوراتها الرامية إلى رفض تسمية قضاة جدد داخل الجهاز القضائي للمنظمة. وبحلول 11 ديسمبر تنتهي من الناحية القانونية فترة ولاية اثنين من قضاة هيئة تسوية النزاعات داخل منظمة التجارة العالمية ليبقى على رأس الجهاز قاض واحد مما قد يعجّل بإلغاء هذا الهيكل برمّته مستقبلا. وتستعد منظمة التجارة العالمية، الأربعاء، إلى إلغاء جهازها القضائي المشلول بسبب رفض الأميركيين تسمية قضاة جدد فيه، في وقت تواصل واشنطن التصعيد تجارياً ضد أوروبا والصين. وإذا ما تواصل الإصرار الأميركي على البقاء على نفس الموقف، فإن بقاء قاض واحد على رأس جهاز تسوية النزاعات لا يسمح له قانونيا بفصل النزاعات بين أعضاء المنظمة. ونجحت المنظمة التي تحتفي في يناير بمرور 25 عاماً على تأسيسها، في تجاوز الانقسامات حول ميزانيتها والمرتبطة بتهديدات من واشنطن، لكن تجميد الأميركيين العمل في محكمة الاستئناف التابعة لمجلس تسوية النزاعات في المنظمة، لا زال قائماً. ويتزامن الشلل في عمل القسم القضائي في منظمة التجارة العالمية مع اجتماع مغلق بين يومي الاثنين والأربعاء للمجلس العام للمنظمة الذي يعتبر أهم جهاز فيها ويضم كافة أعضائها. وستكون محكمة الاستئناف التابعة للمنظمة والتي تندد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأوجه الخلل فيها، في قلب النقاشات. ورأى مدير منظمة التجارة العالمية روبرتو أزيفيدو أن إلغاء هذه المحكمة “قد يفتح الباب أمام حالة أكبر من عدم اليقين وعمليات انتقامية خارجة عن السيطرة”. وعلى الدول الأعضاء في المنظمة التي تأسست عام 1995 على أنقاض إلغاء الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة ذات الأحكام غير الملزمة على نقيض أحكام الجهاز القضائي الحالي، أن تسوي المشكلة قبل 10 ديسمبر حين يصبح عدد القضاة فيها، بفعل انتهاء مدة عملهم، غير كافٍ لحسن سير عملها. وما لم يتم التوصل لاتفاق بشكل مفاجئ، فابتداء من 11 ديسمبر لن تكون منظمة التجارة العالمية قادرة على إلزام الدول الـ164 الأعضاء فيها على الالتزام بالقواعد، وهو وضع سيزيد من هشاشة التعددية الدولية التي تواجه تحديات أصلاً بسبب مواقف الرئيس الأميركي. رأى إدوارد ألدن الخبير في السياسة التجارية في مركز دراسات مجلس العلاقات الخارجية في حديث أنه “لا شك في أن إدارة ترامب قضت على جهاز الاستئناف القضائي. كان ذلك هدفها ونجحت في تحقيقه”. والانتقادات الأميركية إزاء محكمة مجلس تسوية النزاعات ليست جديدة، فقد سبق أن عرقلت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما (2009-2017)، تسمية قضاة فيها. لكنها تزايدت منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة، فهو يتهمها بتجاوز صلاحياتها عبر إطلاق أحكام تقول واشنطن إنها تخرق السيادة الوطنية. وتندد الولايات المتحدة كذلك خصوصاً بالرواتب المرتفعة جداً للقضاة وتخطيهم مهلة 90 يوماً لإعطاء أحكامهم. وترى أيضاً أن من المخالف للقواعد أن يوقف قاض معالجة ملف غير مكتمل بمجرد انتهاء ولايته. وأكدت مفوضة التجارة الأوروبية سيسيليا مالستروم قبل انتهاء ولايتها أن الجهود التي بذلت في سبيل منع الولايات المتحدة من شل المحكمة ذهبت هباء بسبب التجميد الأميركي، شاجبةً هذا الخلاف الذي لا يزال قائماً بين 163 عضواً في منظمة التجارة العالمية والولايات المتحدة. وفي جنيف، ندد السفير الأميركي في منظمة التجارة العالمية دينيس شيا بأن العديد من الدول “نفت ببساطة وجود أي مشكلة”. وأكد بدوره السفير الأوروبي في المنظمة، أغيار ماشادو، أن بروكسل أعربت عن عزمها “مقاربة المشاكل العميقة للاستياء المحيط بالنظام الحالي”. وأوضح مصدر دبلوماسي غربي أن “أوروبا منفتحة على مناقشة هذه الخلافات، لكن شرط أن ترفع الولايات المتحدة الحظر على تعيين القضاة”. توضح الباحثة في “معهد جاك دولور” إلفير فابري أن “منظمة التجارة العالمية بحاجة إلى ساقين لتأمين حسن سيرها، واحدة للجانب القضائي وأخرى للمفاوضات”، من أجل تفادي التحول إلى العمل بـ”شريعة الغاب”. وإذا ألغيت المحكمة الخاصة بمنظمة التجارة العالمية، قد تتحول الحرب التجارية إلى القاعدة السائدة دولياً. بحسب الباحث إدوارد ألدن، سيكون هناك دائماً قرارات في المنظمة تصدر في مرحلة ابتدائية، “لكن يمكن لأي بلد أن يجمد اتخاذ قرار ما عبر استئنافه أمام جهاز لم يعد موجوداً”. ويرى أن شلل الذراع القضائية لمنظمة التجارية العالمية لا يسهم سوى في إضفاء طابع رسمي للنظام التجاري العالمي المضطرب بسبب القرارات الأميركية لفرض رسوم جمركية على شركائها الاقتصاديين وخطوات هؤلاء المضادة. وانطلاقاً من الرغبة في تفادي الوصول إلى فوضى تجارية مماثلة، أعلنت كندا والاتحاد الأوروبي والنرويج تأسيس هيئة استئناف مؤقتة مخصصة للنظر في أي نزاع تجاري بين بروكسل وأوتاوا وأوسلو. ويمكن لأعضاء آخرين في المنظمة أن يكتفوا بنظام لتسوية النزاعات قائم فقط على أحكام صادرة عن جهاز المرحلة الابتدائية. وقال السفير الأميركي في منظمة التجارة العالمية “يعود لأطراف أي نزاع أن يحدّدوا معاً السبيل الذي يريدون اتباعه” لتسوية نزاعهم.
مشاركة :