إذا نظرنا إلى منجزات الإنسان عبر عصور نجد أنها حصيلة جهود كبيرة محورها التفاعل بين الإنسان، بما ميزه الله من عقل يلاحظ ويفكر ويكتشف ويتعلم ويبدع ويبتكر من جهة، والطبيعة من حوله بما وضع الله فيها من خصائص وإمكانات وخبايا لا حصر لها من جهة ثانية. فعقل الإنسان باحث عن المعرفة، ومتحفز للحصول عليها، وساع إلى استخدامها والاستفادة منها، ومهتم بنشرها ونقلها إلى أبنائه؛ والطبيعة من حوله منهل من المعارف لا ينضب، إذا عرف عقل الإنسان بعضه اكتشف أيضا أنه يجهل كثيرا. أمام تراكم المعرفة عبر العصور، وصلنا إلى عصر تتسارع فيه الاكتشافات، وتتكاثر الابتكارات، وتتنافس فيه العقول نحو التعلم وتلقي مزيد من المعرفة المتجددة، والعمل على تطبيقها وتسخيرها لخدمة متطلبات الإنسان. ولا يشمل التنافس على "التعلم" حاليا عقول البشر وذكاءهم، بل بات يشمل أدوات "الذكاء الاصطناعي" ووسائل "تعلم الآلة" وما يرتبط بها أيضا ليصبح دور العقل البشري بذلك ليس التعلم فقط، بل الإبداع والابتكار أيضا. والقول المطروح حاليا في وصف تحولات العصر، هو أنه عصر يعتمد على "تفعيل عقول البشر Minds"، ولا يعتمد على "قوة عضلاتهم Mussels". فقد باتت العضلات أنظمة ميكانيكية يديرها الذكاء الاصطناعي، وتركزت الحاجة إلى عقل الإنسان وتفكيره، وخياله المنطلق في فضاء الإبداع والابتكار الفسيح. يبدأ بحث الإنسان عن المعرفة عند ولادته حيث تراقب عيناه ما حوله لتتراكم المعرفة في عقله يوما بعد يوم وعاما بعد آخر، يتعلم عبر التعليم النظامي، ويتعلم من الناس حوله، ومن البيئة المحيطة، بما في ذلك معطيات العصر التي تشمل الإنترنت وما يرتبط بها. وهناك في هذا المجال جملتان مأثورتان، إحداهما لألبرت أينشتاين Albert Einstein أحد أبرز علماء القرن الـ20 والثانية لهنري فورد Henry Ford أحد أهم رجال الصناعة في القرن الـ20 تقول جملة أينشتاين: "يجب أن يبدأ النمو الفكري للإنسان عند ولادته ولا يتوقف إلا عند رحيله"؛ وتقول جملة فورد: "يصبح الإنسان عجوزا عندما يتوقف عن التعلم حتى لو كان في الـ20 ويبقى الإنسان شابا طالما أنه مستمر في التعلم". يحمل القولان السابقان خبرة رجلين عانقا المعرفة والتعلم والإبداع والابتكار بأسلوبين مختلفين، أحدهما بالفكر وخيال الإبداع وتفسير بعض جوانب الطبيعة، والثاني بنقل ذخيرة الفكر إلى أرض الواقع وتحويلها إلى منتجات مبتكرة تحمل قيمة مباشرة. وفي الحالتين كان التعلم واكتساب المعرفة ديدنهما، ولا شك أن ذلك كان "ضرورة" لتمكينهما من تحقيق ما يطمحون إليه، ولا شك أن ذلك كان أيضا "متعة" لهما في اكتساب المستجدات والاستفادة منها في إطلاق فكر جديد، استفاد منه العالم بعد ذلك عند الأول؛ وتقديم منتج جديد انتشرت فوائده حول العالم عند الثاني. يعطي التعلم المتواصل تجددا في المعرفة وفي التجدد دائما "متعة"، خصوصا عندما تقترن أيضا بالفائدة، ولا شك أن لكل معلومة فائدة تفتح آفاق الإنسان في فهم الحياة. ولعل والت ديزني Walter Disney"، مؤسس "عالم ديزني"، كان من أشهر من سعى إلى تقديم شؤون الحياة بأساليب متجددة جاء بها من التعلم والإبداع والابتكار لإسعاد الناس عبر توسيع دائرة اطلاعهم، وإمتاعهم بما يقدم إليهم. ولديزني في هذا المجال قول مأثور هو: "نستمر في المضي قدما إلى الأمام، نفتح أبواب التجديد، لنقدم معطيات جديدة؛ والسبب هو حماسنا للتجديد، هذا الحماس هو الذي يحركنا دائما نحو مسارات جديدة". ولعلنا نجد في ذلك خلاصة تقول: إن التعلم "متعة" لما فيه من تجديد، و"ضرورة" أيضا في عصر يشهد تسارعا معرفيا غير مسبوق. وهناك فكرة أخرى في مسألة التعلم مدى الحياة، وهي أن هذا التعلم يتطلب تفكيرا مستمرا، يستطيع الإنسان من خلاله اكتساب "الحكمة" عبر الزمن، لأن الحكمة لا تكتسب عبر التعليم المدرسي المرتبط بمناهج محددة، وإنما تأتي عبر عقل راجح مارس التفكير من خلال تعلمه المتواصل عبر أعوام. وفي هذا المجال يقول أينشتاين: "ليست الحكمة منتجا من منتجات التعليم المدرسي، بل هي محاولات مستمرة يسعى الإنسان إليها عبر السنين". ولا شك أن الحكمة من المزايا الكبرى التي يطمح كل إنسان إلى الوصول إليها، ولعل الأهم بشأنها أن القرآن الكريم ذكرها في إحدى آياته بالقول: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذّكر إلا أولو الألباب". وفي إطار الاهتمام بالتعلم، واكتساب المعرفة والإبداع والابتكار فيها، وتوخي الحكمة لا بد من التنبه إلى "الجانب الأخلاقي" فبدون هذا الجانب يصبح التعلم المستمر مشكلة اجتماعية، بدل أن يكون رافدا للمجتمع، ومفعلا للارتقاء به. "فالمعرفة قيمة محايدة" في يد صاحبها، إن اختار لها الخير فهي خير له ولمن حوله، وإن وجهها للشر فأثرها شر في المجتمع. ولا شك أن من يزرع الخير يحصد خيرا، ومن يزرع الشر يحصد مثيله أيضا. وعلى ذلك فإن التوجهات الأخلاقية للإنسان تمثل المنطلق المطلوب لكل إنسان يسعى إلى التعلم، فاكتساب المعرفة من التعلم مقدمة لاستخدامها والاستفادة من قيمتها، ولا بد لهذه الاستفادة أن تكون في مصلحة المجتمع تهتم بتنميته والارتقاء بإمكاناته. ولعل من المناسب التساؤل في ختام هذا المقال عن "المسؤولية" عن التعلم مدى الحياة، بل المسؤولية عن تمكين هذا التعلم، خصوصا مع الحاجة إليه كضرورة في هذا العصر، ومع كونه متعة تسر عقل الإنسان وتحفزه لاكتساب كل جديد. بعض التعلم يمكن أن يكون ذاتيا، يكتسب الإنسان المعرفة فيه بالبحث عن المعرفة عبر الكتب ومن خلال الإنترنت المكتبة الكبرى في هذا العصر. وبعض آخر من التعلم يمكن أن يكون عبر مجموعات تشترك في الاهتمام بموضوعات محددة، وتتواصل في لقاءات مباشرة أو عبر الإنترنت، ثم بعض ثالث يحتاج إلى تدخل مؤسسات التعليم، خاصة عندما يكون التعلم تحديثا مطلوبا مهنيا يفرضه تقدم العصر ومعطياته المتجددة. ولنا عودة إلى هذا الموضوع في مقال مقبل بمشيئة الله.
مشاركة :