خلاصة الأبحاث الأثريّة تحت- بحريّة التي قادها الأثريّ الفرنسيّ فرانك غودّيو شرقيّ الدّلتا، أماطت اللّثام عن النّفائس المنطمرة في عمق البحر بمواقع طونيسْ وهيراكليون وكانوب، التي حفظت لأكثر من خمسة آلاف سنة أسرار الطّقوس والمواكب الدّينيّة المرتبطة بانبعاث أوزيريس. وكان هذا الأثريّ الفرنسيّ شرع في حفريّاته منذ 1996، باحثاً عن منطقة كانوب القديمة التي غمرتها مياه البحر، وعن البقايا الأثريّة النّفيسة التي أتت لتكشف عن إرث فنيّ مصريّ بالغ العراقة. وفي سنة 2000 تمّ اكتشاف مدينة طونيس- هيراكليون وميناءها ومعبدها، وكذلك مدينة كانوبْ التي شكّلت الدّافع الأوّل لهذا البحث الأركيولوجي. كما كشفت حفريّات حديثة عن شواهد أثريّة كثيرة أخرى تعود إلى فترة البطالمة والفترة الرّومانيّة، وهي شواهد على علاقة مباشرة بأسرار أوزيريس: نُصَبٌ تذكاريّة، تماثيل، قرابين شعائريّة وأدوات طقوسيّة.. كلّها تشهد على أنّ الطّقوس والمواكب المحتفية بملك علم الأموات، أوزيريس، كانت تتمّ هناك. وقد ساهمت تلك الطّقوس، التي كانت تنتظم في كامل أنحاء البلاد المصريّة، في تأبيد الأساطير المؤسّسة لحضارة مصر، وفي تخليد أسطورة الثّالوث.. أوزيريس - إيزيس- حورِسْ. أوزيريس.. العودة بالمحبة تقول الأسطورة إنه وبوصفه ابن إلهة السّماء (نوت) وإله الأرض (جاب) ورث أوزيريس المُلك على هذه الأرض، معه خبر النّاس تعاليم دينهم وشعائره، وعرفوا التّشريع فجعلوا القوانين فيصلاً في تدبير شؤون حياتهم، كما عرفوا أساليب جديدة ومتقدّمة في الزّراعة أسهمت في تزايد خيرات البلاد ونمائها. على أنّ أوزيريس الذي كان إنساناً خيّراً، ابتلي بخيانة أخيه «ساث» وغدره له، إذ تآمر عليه هذا الأخير وقتله، قبل أن يأمر بتمزيق جسده إرباً ونشر بقاياه في أنحاء مختلفة من البلاد. غير أنّ زوجته إيزيس، سرعان ما سعت إلى تجميع تلك الأجزاء، وحين عثرت عليها، بادرت بإعادة تركيب جسد زوجها القتيل. فيكون أوزيريس طبقاً للأسطورة قد استعاد كماله الجسديّ الأصلي بفضل محبّة زوجته له وإلى ما أبدته هذه الأخيرة من وفاء ضمِنَ له بعد ذلك الانبعاث. بمساعدة شقيقتها «نيفتيس» و«أنوبيس»، خبرت إيزيس أسرار التّحنيط وابتكرت عديد المستحضرات النّباتيّة والمعدنيّة لمقاومة الموت وحفظ جسد زوجها الفاني من التّلف. وأمعنت بعد ذلك في التوسّل إلى الآلهة، مستجدية أوزيريس، كيما ينهض من رقدته، وظلّت قربه وهي ترفرف أجنحتها، عساها تبثّ فيه نفس الحياة من جديد. وأفاق أوزريس وأمكنه هكذا الانتصار على الموت، وإنعاش حلم الإنسان الأبديّ في الخلود، ليصبح بذلك سيّد عالم الأموات. ومن علاقته بإيزيس.. أنجبت له هذه الأخيرة حورس الذي سوف ينتقم لأبيه ويغدو الملك الشّرعيّ لمصر، ويصبح بعد ذلك أنموذجاً للفرعون المثاليّ الذي يرغب كلّ ملك في التشبّه به والاقتداء بسيرته. لقد كابد أوزيريس الموت إلى أن تمكّن من الانتصار عليه؛ لذا أصبحت أسطورته تجسّد صراع الإنسان المرير والثّابت مع العدم. أمّا «ساث» الذي قتل شقيقه وحلّ محلّه، فسرعان ما سيتمّ خلعه من قبل حورس ابن إزيس وأوزيريس والانتقام منه، لذا.. يجسّد هذا الأخير جانب الفوضى الملازمة لتدبير شؤون الحكم وسبل ضمان استمرار الملك وفاعليّته. وكان الملك يجمع في داخله قوتين متواجهتين بصورة دائمة، ومتصارعتين حدّ إدراكهما حالة التّوازن. فتكون أسطورة أوزيريس أرست منظومة قيم أخلاقيّة وروحانيّة داخل المجتمع المصري تكفل له أسباب الانسجام وتجنّبه آفات التوتّر والتّطاحن، والطّقوس الدّينيّة وحدها هي التي كانت قادرة على حفظ ذلك التوازن وما يثمره من استقرار. لذا.. كان القربان الأسمى يقدّم في الشّعائر اليوميّة لآله العدل «ماعتْ»، الذي يسهر على انسجام المجتمع وتماسكه. وكان المجتمع بأكمله مطالب بتقديم ذلك القربان وإبداء سلوك منسجم مع «ماعتْ» يكون صورة من الانسجام الذي يميّز النّظام الطّبيعي للأشياء. طقوس الاحتفال بأوزيريس لقد شكّلت تلك الطقوس الجانب الأهمّ في الاحتفالات التي كانت تنتظم لتمجيد أوزيريس في معبده. فمنذ عهد الإمبراطوريّة الوسطى، في أبيدوس، المدينة المقدّسة لأوزيريس، أوّلا، ثمّ في كامل مدن مصر، كانت أيقونة الملك تُخرج من المعبد على متن زورق، وفي أجواء من البهجة الشّعبيّة العارمة، كان هذا الملك يبدو غانماً ومنتصراً، فيما يقبل الكهنة على محاكاة انفعالاته وهم يرتّلون ابتهالات جنائزيّة، ويطلقون أناشيد حماسيّة تمجيداً لانتصاراته. بعد ذلك.. كان الموكب يعود أدراجه إلى قبر أوزيريس يرافقه كبار الكهنة. هناك كانت تنتظم طقوس أخرى في المعبد احتفاء بانبعاثه. ونجد أكمل الشّهادات وأبلغها على تلك الطقوس في معابد أوزيريس في «دندرة» وخاصّة بمدينتي هيراكليون وكانوب. وفي الشّهر الرّابع من كلّ سنة، وحين كانت مياه الفيضان تنحسر بعد أن تكون قد أخصبت بطميها الأرض، كان الكهنة يقبلون على تشكيل تماثيل مصغّرة لأوزيريس من التّربة المبذورة.. المتخمة بماء الفيضان الجديد. وكانت البراعم المستنبتة والآخذة في النموّ على مهل.. رمزاً بليغاً لعودة الحياة. وبفعل تلك الطّاقة الإبداعيّة، كانت الشّمس تنبثق فجأة من ظلمة اللّيل، ليتجدّد ميلادها كلّ يوم بعد أن تكون قد استعادت كلّ عذريّتها وبريقها، فتبدو وكأنّها تطلّ من مخبئها لأوّل مرّة. تشوّف إلى الأبديّة يوقظ التقدّم العلمي من جديد اليوم، حلم الإنسان القديم بالخلود، فهل يتّسق هذا الحلم البيولوجي مع أسطورة أوزيريس ورؤية المصريّين القدامى للوجود؟ كلاّ.. بل الأمر ليس كذلك تماماً، لأنّ رؤية المصريّين كانت متناغمة مع قوانين الطّبيعة والكون، وتدمج الإنسان، بوصفه كائناً متناهياً في الصّغر، في قوانين الكون المتناهية في الكبر، وكانوا يعملون بالتّالي على تنمية وعي بالخلود في ما وراء الجسد الفاني. وطبقاً للأسطورة كان ينبغي للميّت أن يتابع رحلته في العالم اللاّمرئيّ وعيناه مفتوحتان (أي وهو في حالة وعي تامّ)، وأن يحاول التّماهي مع الضّياء الشّمسي، أي مع الوعي المتسامي للكون.. الذي يخترق الأشكال الظّاهرة للحياة والموت، كما تومئ إلى ذاك الدّورة اليوميّة للشّمس.. وهي دورة حياة وموت. وككائن خيّر كريم.. لم يكن أوزيريس سيد الموتى فحسب.. وإنّما كان، وقبل كلّ شيء.. «مرشد الأحياء» ودليلهم عند عبورهم طريق صيرورتهم الذي تجسّده الخنفساء «كِيِيِيرْ»، ويكون الإنسان وهو يعبر تلك الطّريق منذوراً للألم.. ثمّ للموت فالانبعاث، قبل أن يتحوّل إلى كائن مطلق. يجسّم الموت حينئذ حالة من الوعي ومن عدم الاكتراث بالبلاء، وإقبالاً على صراع مرير من أجل البقاء. وكان أوزيريس أوّل من عاش مثل هذا امتحان، وأوّل من خبر أسراره. ولا سبيل إلى مثل ذلك التحوّل في حياة الكائن، دون المرور بالموت الذي يمثّل عودة إلى الحالة الأصليّة، التي منها يستمدّ المتوفّى الطّاقة الكامنة فيه والضّروريّة كيما يحظى بالانبعاث المرتقب. وكان الموت الحقيقيّ بالنّسبة للمصريّين القدامى يعني التوقّف عن الحركة، فيما كان أوزيريس يمثّل النّبض الباطنيّ للكائن، الذي يكون على كلّ حيّ تنميته حتّى يغدو موصولاً بأغوار ذاته وبالسرّ المنطمر في أعماق كيانه، أو.. ما يدعوه المصريّون.. «نُونْ». ومتى انغمر المرء في تلك الأعماق، اكتشف الطّاقة الكامنة في روحه وأمكنه اِستدعاءها كيما تنهض وتنبثق كما تنبثق الحبوب المُبرعِمة على إثر الحصاد. أمّا مومياء أوزيريس، فهي تمثّل جسداً بديلاً أو شرنقة سوف تسمح للرّوح بالتحرّر من روابطها التّرابيّة وإدراك عمقها الرّوحانيّ. ينبغي حينئذ إعادة بناء جسد جديد.. ثمّ التحرّر منه، كيما يتمّ تحوّل ذلك الجسد إلى جسد ممجّد.. إلى كينونة نورانيّة. وتلك أسرار الرّحم الذي يتمّ فيها ذلك التحوّل كما لقّنها «أنوبيس» (دليل الموتى وحارس العالم السفليّ) لإيزيس. وكانت الإحاطة بأسرار أوزيريس تفترض تهجّي الكائن لقانون الدّورات الطّبيعيّة كيما تتحقّق العودة الأبديّة إلى الأصل، ويتمّ في كلّ ليلة قهر قوى الفوضى والخواء التي تنتهبه. والحقيقة أنّ أوزيريس لا يطاله الفناء أبداً، وإن بدا ثابتا فهو يظلّ في الحقيقة فاعلا وعلى قيد الحياة. ويتعيّن حفظه وتمجيده، لأنّه يجسّد الخير الذي لا يكتسي كلّ معانيه إلاّ بنزال يوميّ ضدّ الشرّ الذي يمثّله «ساث». أمّا «ساث».. المتمرّد، فهو يثير بتصرّفاته قوى الخير حتّى يختبرها، ويجعلها تبدي إرادة ثابتة من أجل إعادة البناء والتجدّد. إنّه أشبه بمميّع كونيّ، وما لا يقوم «ساث» بإتلافه، هو كلّ ما هو منذور للبقاء والخلود. وتلك هي الابتلاءات التي توفّق أوزيريس في التغلّب عليها. إيزيس.. السّاحرة المهيبة كانت إيزيس (ربّة القمر ومرشدة الموتى إلى حياة ما بعد الموت) تمتلك قوّة خارقة، وبدافع من المحبّة.. أمكنها بفضل قوّتها الانتصار على ما لحق بها. وهي الأمّ التي أنجبت فوق الأرض (في العالم المرئيّ) وفي ما وراء هذا الوجود (العالم اللاّمرئيّ). وكانت إيزيس تمتلك قدرة ساحرة على التلقين، فتذكّرنا بضرورة الابتعاد عن التسرّع، وتعلّمنا أنّ أيّ عمل خيميائيّ هو عمل صبور، ينبغي أن يتمّ وفق نسق رصين وهادئ، كما هي الدّورات الثّابتة للطّبيعة التي تمثّلها. فقد عملت في بداية الأسطورة على تجميع جسد أوزيريس الذي أمر ساث بذبحه وتقطيعه. فأوزيريس يمثّل ذلك الكلّ الذي بعثرته الكارثة، والذي يكون كلّ واحد منّا بحاجة إلى إعادة تركيبه وهيكلته داخل ذاته. وحتّى تحفظ سلامة جسد زوجها، كانت إيزيس تلوذ بوسائل ذات طبيعة سحريّة وطقوسيّة ومعرفيّة مرتبطة بالأساطير والرّموز. كان عليها بعد ذلك جمع كلّ العناصر التي تمّ العثور عليها، وترتيب كلّ ما انطوت عليه الحجرة السريّة، مثوى أوزيريس، كما النّاووس الذي بداخلها. وعندها.. سوف تغدو إيزيس «ماعتْ» (إلهة الحق والعدل والنظام في الكون) لتمنح بسخاء الصّواب الذي سوف يمكّن من إعادة بناء النظام الضروريّ لحياة الفرعون بعد الانبعاث. وفي النّهاية.. سوف تسمح تعاليم «توت» (أو تحوت.. وهو رمز الحكمة عند المصريّين القدامى) بإقامة علاقة مواسية مع أسرار السّماء، لأنّ أوزيريس وإيزيس كانا يعملان معاً على نقل العلم السريّ لـ «توت» وهو العلم الذي يفتح على مصراعيه باب العلوم المقدّسة وييسّر انصهار الرّوح الفرديّة في الرّوح الكليّة. من خلال أسطورة انبعاث أوزيريس يتبين لنا كيف نحقّق انبعاث ذواتنا بصورة رمزيّة عبر عمليّة استبطان ذاتي، وضرورة أن نبتعد عن المواقف والسّلوكات غير القويمة، كيما ننبعث من جديد في كلّ يوم، وننمّي الطّاقات الإيجابيّة الكامنة فينا لنعيش بطريقة أفضل.
مشاركة :