نظرة إلى ما وراء الحدود

  • 5/20/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

بينما يركـــز البعض على تنقلات قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في العراق، وانتشار «حزب الله» على طول الحدود السـوريــة اللبنانية، وانفلاش الحركة الحوثية على أرض اليمن، تزكـــي هـــذه المتابعة مقولة للزعيم الصيني ماو تسي تونغ حين قال: «احملوا السلاح دفاعاً عن حـــدودكم، وتأملوا في الوقت نفسه أحوال العالم وراء هذه الحدود». ففي ضوء هذه العبارة يتراءى لنا مصير أحـــوال المشرق العربي الغارق في الصراعات الطائفية والأهلية، فـي حين يتم الاتفاق ما وراء الحدود العربية على الإطار المبدئي ما بين إيران والدول الخمس+1 على برنامج طهران النووي. الكثيرون ممن واكبوا المفاوضات المباشرة وغير المباشرة بين أميركا وإيران منذ عام 2001، يُجمعون على أن حيازة طهران التكنولوجيا النووية أصبحت أمراً محسوماً، إذ تم الاعتراف بإيران كدولة «حافة نووية». ولم يبقَ إلا ترتيب الملفات المتعلقة بالمنطقة. من هنا يمكننا القول إن ثمة تغييراً كبيراً قد حصل، وإذا تغير سلوك أميركا تجاه إيران، يجب ألا نستغرب تبدلاً في سياسات حكام طهران. بناءً على ذلك، تكون منطقة الشرق الأوسط دخلت في مرحلة ترتيب الملفات على طول ساحات الصراع، وأن «عاصفة حزم» سياسية صارت ضرورية لامتصاص ارتدادات هذا الاتفاق التي قد تتخطى السقف السياسي لكل المنطقة، الذي أنشئ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991. وكما للسقف الإنشائي أعمدة يستند إليها، كذلك السقف السياسي له معاهداته واتفاقاته، ففي منطقتنا استند السقف السياسي الشرق الأوسطي منذ عام 1991 إلى أربعة أعمدة رئيسة، أولاً: اتفاق «كامب ديفيد» للسلام ما بين مصر وإسرائيل، ثانياً: اتفاق الوفاق الوطني أو ما يعرف باتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، ثالثاً: الاحتواء المزدوج للعراق وإيران، والذي هو مزيج بين الرقابة العسكرية الجوية والعقوبات الاقتصادية على البلدين، وأخيراً: انطلاق عملية السلام بين إسرائيل من جهة، وسورية ولبنان والأردن وفلسطين من جهة أخرى، والذي أنتج اتفاقي «أوسلو الفلسطيني» و«وادي عربة الأردني». الكل يتذكر العناوين التي سادت الإعلام والصحف العربية في تلك الحقبة من تسعينات القرن الماضي. مثلاً الرحلات المكوكية إلى العواصم العربية لوزراء الخارجية الأميركية لمتابعة عملية السلام، وقضية أطفال العراق ونفطهم تحت سيف الحصار، وظاهرة رفيق الحريري، رئيس وزراء أنطاكيا وسائر المشرق -على حد وصف بعضهم -... وغيرها، إلا أن السياسة تصنع العناوين وليس العكس، فكل تلك الحركة والعناوين هي تعبير عن هامش الحركة السياسية للدول في الإقليم، باستثناء الدولة العبرية، فيحق لتل أبيب ما لا يحق لغيرها، واصطدام الجيش الإسرائيلي بأعمدة السقف السياسي مسموح به تحت حجة محاربة الإرهاب. غير أنه منذ عام 2000 تغيّرت قواعد اللعبة، وتلك قصة أخرى... مع نهاية الألفية الثانية، وتحديداً عام 1997، توجهت مجموعة أميركية تدعى «مشروع القرن الأميركي الجديد» برسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون، دعته فيها إلى إعادة تقييم موقع الولايات المتحدة ودورها في القرن الـ21. واعتبرت أن شمس الإمبراطورية الأميركية لن تغيب إذا ما تحولت واشنطن من سياسة إدارة العالم إلى تغيير العالم نفسه. ونصت على وجه الخصوص على إطاحة نظام صدام حسين في العراق. هذا في الشكل، أما في المضمون فما كانت توحي به هذه الرسالة هو أن جغرافيا العالم الإسلامي الممتد من جزر الفيليبين في المحيط الهادئ، مروراً بجبال أفغانستان الآسيوية، ووصولاً إلى شواطئ موريتانيا الأطلسية، مجموعة من الدول والمجتمعات المتأخرة عن العالم الغربي، وفق كل المؤشرات الدولية من حقوق إنسان، وحقوق المرأة، وديموقراطية وغيرها، فجاءت التوصية على أن ريادة واشنطن للنظام العالمي تعني أنه لا يمكن انتظار هذه الكتل للحاق بالعالم الغربي، بل يجب الذهاب إليها وإرغامها على إجراء التغيير. لكن إدارة كلينتون لم تكن تقرأ في الفنجان نفسه، بل إن كلينتون أراد أن يكون إبرامه «اتفاق السلام» النهائي بين فلسطين وإسرائيل (مفاوضات واي ريفر) ميراث عهده، محافظاً بذلك على السقف السياسي الذي حدد دور كل طرف في المنطقة. على العموم انتهى عهد كلينتون بفضيحة جنسية كميراث ليبدأ عهد بوش الابن ومعه تحولات كبرى. القرن الأميركي الجديد سيبقى مثار جدل مدى تأثير مجموعة «مشروع القرن الأميركي الجديد» في إدارة الرئيس بوش الابن، ومن ثم على منطقة الشرق الأوسط. لكن المفارقة تبقى في أن عشرة أشخاص من أصل 25 وقّعوا الوثيقة التأسيسية للمجموعة تسلموا مناصب إدارية في عهد بوش الابن. اشتعلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد فشل مفاوضات «واي ريفر» الفلسطينية- الإسرائيلية عام 2000، معلنةً موت عملية السلام، تزامناً مع الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. هنا لا يمكن إغفال وصول أرييل شارون إلى رئاسة الحكومة في إسرائيل، وزيارته الشهيرة للحرم القدسي. تلا ذلك الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، الذي بدوره أنهى عملية الاحتواء المزدوج، مشرعاً الباب للانسياب الإيراني إلى المنطقة. وفي 2004 كانت الضربة القاضية عند صدور قرار الأمم المتحدة رقم 1559 المتعلق بلبنان، والذي شكل ورقة نعي لاتفاق الطائف، ولكن من دون المقدرة على دفنه. عندها بقي هذا السقف مستنداً إلى عمود وحيد يترنح، اتفاق «كامب ديفيد» للسلام. والمثير في هذه السلسلة من الأحداث، أن اتفاق «كامب ديفيد» استمر راسخاً ومتجذراً في أرض الكنانة، وحتى في ذروة عملية تغيير النظام المصري. وكيف لنا أن ننسى رسالة الرئيس محمود مرسي إلى عزيزه شمعون بيريز الرئيس الإسرائيلي. الباقي تاريخ، كما يقال في أميركا... اشتعل الصراع في المنطقة آخذاً أشكالاً عدة: اعتداءات إسرائيلية متكررة، تنامي العمليات الإرهابية، استنهاض مشاريع هيمنة عثمانية وفارسية، وأخيراً انتشار الحروب الأهلية. مجموعة من التطورات الدراماتيكية مع تبلور مشاريع إقليمية قد تقرر مصير المنطقة ومستقبلها. المقصود هنا هو أن المنطقة تشهد منذ 14 عاماً صراعاً بين نظرتين متضاربتين حيال البناء السياسي فيها، فهناك فريق يريد الحفاظ على السقف القديم مع عملية ترميم للأعمدة السابقة، في مقابل فريق يسعى لصنع سقف جديد نتيجة ما يعتبره مكاسب محققة على مدار أعوام من التفاوض. نصل إلى أن كل حوار اليوم يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط يجري الحديث فيه عن إيران. وفي كل نقاش يتعلق بإيران يجري الحديث عن الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب. وفي أي حال، كلا الحوارين مرتبط بنظرة الولايات المتحدة وسياستها حيال المنطقة. أي بمعنى آخر نحن أمام لحظة مفصلية في مسار العلاقات الإيرانية- العربية وسط غياب تام لمشروع عربي. أمام لحظة لم يعد ممكناً فيها الركون فقط إلى الاختلافات المذهبية والمطامع الفارسية كمنطلق للتحليل، ولم يعد أيضاً بالإمكان الاستناد إلى منطق نظرية المؤامرة بأن أميركا هي الشر كله. هنا نقول إن خطابي «محور الممانعة» و«محور الاعتدال» لا يجديان نفعاً. الاتفاق النووي الإيراني -وإن تم بشكله النهائي- سيغير حتماً شكل المنطقة. وفي سياق النظر إلى ما وراء الحدود، هل يبني الاتفاق سقفاً جديداً أو يكون عموداً للسقف القديم؟ * كاتب سعودي

مشاركة :