مؤسسة الاستشراق وترجمة الكتاب العربي الإنجازات والإكراهات

  • 5/20/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لن نكون مبالغين إذا قلنا إن الاستشراق هو بحق مشروع ترجمة، لا نقول هذا الكلام مجازاً، وإنما حقيقة. بل إن تأثير الاستشراق تجاوز النطاق الغربي، إلى الإطار العربي: بدليل أن الكتابات الاستشراقية عن الفكر العربي كانت تعقبها ترجمات لهذه النصوص من اللغات الأوروبية إلى الثقافة العربية، لنكون بذلك أمام (ترجمة مضاعفة). لقد تعددت مناشط الاستشراق، لكنها على تنوعها كانت تهدف إلى نقل النصوص العربية إلى اللغات الأوروبية. يمكن حصر أهم مناشط الاستشراق، في ما له علاقة بالترجمة العربية في ما يلي: - ترجمة الكتب والنصوص العربية المختلفة. -عرض وتلخيص وشرح الكتب العربية، باللغات الأوروبية. - التأليف في شتى مجالات الدراسات العربية والإسلامية، باللغات الأوروبية. - التدريس الجامعي للثقافة العربية في مجالاتها المختلفة. - جمع المخطوطات وفهرستها في المكتبات الأوروبية. - تحقيق ونشر الكتب العربية. عموماً يمكن تحديد الإطار التاريخي للدراسات الاستشراقية التي اشتغلت في الترجمة في القرن السادس عشر. حيث نشطت الطباعة الغربية، وتحركت الدوائر العلمية الغربية، وأخذت تصدر كتاباً بعد الآخر. وقد ازداد النشاط الترجمي الاستشراقي بعد تأسيس كراس للغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية مثل كرسي كامبريدج عام 1632، وكرسي أكسفورد عام 1638. وكان تأسيس الجمعيات العلمية (مثل الجمعية الآسيوية البنغالية والجمعية الاستشراقية الأمريكية والجمعية الملكية الآسيوية البريطانية وغيرها) بمنزلة الانطلاقة الكبرى للاستشراق، حيث تجمعت العناصر العلمية والإدارية والمالية فأسهمت جميعها إسهاماً فعالاً في البحث والاكتشاف والتعرف إلى عالم الشرق وحضارته، فضلاً عما كان لها من أهداف استغلالية واستعمارية. وقد نقل المستشرقون إلى لغاتهم الأصلية الكثير من كتب الأدب (الدواوين الشعرية، والمعلقات، وكتب تاريخ الأدب). ترجموا أيضاً كتب التاريخ (تاريخ أبي الفداء، وتاريخ الطبري، ومروج الذهب للمسعودي، وتاريخ المماليك للمقريزي، وتاريخ الخلفاء للسيوطي). كما ترجموا بعض كتب التصوف (إحياء علوم الدين، والمنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي)، وغير ذلك من مئات الكتب في العلوم الإسلامية المختلفة. كما قام المستشرقون بإعداد ترجمات عديدة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية كافة. هذه الخدمات هي التي ستسمح للغرب بقراءة الثقافة العربية. معتمداً -في ذلك- على الأدوات المنهجية والإجرائية نفسها التي اعتمدها في قراءة تراثه الخاص. وسينظم المعارف العربية وفقاً لتوقعاته وانتظاراته منه، حتى يضمن التحكم في كينونته، وينفذ إلى هويته، ليبرز فيها ما يشاء، ويخفي ما يشاء. من المفيد أن أقتبس عن إدوارد سعيد هذه الخلاصات التي حاول من خلالها تكثيف وظائف الاستشراق. يقول: (المستشرق يمكن أن يزود مجتمعه بتمثيلات للشرق: 1 - تحمل طابعه المميز الخاص. 2 - توضح تصوره لما يمكن للشرق أو ينبغي له أن يكون. 3 - تتحدى تحدياً واعياً وجهة نظر إنسان آخر للشرق. 4 - تزود الإنشاء الاستشراقي بما يبدو، في تلك اللحظة، بأمس الحاجة إليه. 5- تستجيب لمتطلبات معينة ثقافية، ومهنية، وقومية، وسياسية، واقتصادية تفرضها الحقبة التاريخية). لذلك فإن المستشرق المحكوم بالمركزية الأوربية، كثيراً ما ينظر إلى مباحث التراث العربي وقضاياه وعلومه في علاقتها بأصول يونانية أو هندية أوربية عموماً. لذلك نصادف في التآليف الاستشراقية المذكورة من يتناول النحو العربي في علاقته بالأصول والمراجع النحوية في الإسكندرية أو غيرها، وينظر إلى علم العروض العربي في علاقته بالأوزان الأوربية. كما يضع تصوراً للهجات العربية القديمة واللغة العربية الفصحى، من خلال العلاقة التي حكمت اللغة اللاتينية واللهجات الرومانية المختلفة. كما نصادف هذا النوع من التأصيل -الذي يرد الظواهر الثقافية العربية والإسلامية إلى أصول غربية- في الدراسات التي اهتمت ببعض المبدعين العرب من كتاب وشعراء: فمذهب ابن الحزم في طوق الحمامة، القائم على الحب العذري (غير مألوف ولا معهود في الثقافة العربية الإسلامية التي يطبعها الحب الحسي) في نظر دوزي، لذلك فهو يبحث عن أصول لهذا النوع من الحب في الثقافة المسيحية! ذلك فإن (هذا الشاعر الأكثر عفة) هو أيضاً (الأكثر مسيحية). فالمثالية المسيحية هي أصل ما نعثر عليه في كتاب طوق الحمامة- وغيره من المؤلفات العربية- من حب عذري. وتصوف الحلاج- عند ماسينيون- ثورة على الإسلام (السني)، ورجوع به إلى التثليث المسيحي الذي هو المتنفس الحقيقي للعقل والفكر. إذا كانت التآليف التي وقفنا عندها سابقاً تستمد أطرها المرجعية من الفلسفية الاستشراقية بمفهومها الكلاسيكي القديم، فإنه من المهم الوقوف -من خلال ما يلي- عند تصورات استشراقية جديدة، تنطلق من منظور مغاير، يمكن حصر مظاهر هذه الجدة في مظهرين: أولهما، أن هذه الدراسات الاستشراقية الجديدة قائمة أساساً على الانفتاح على التطورات الأخيرة التي شهدتها مختلف ميادين المعرفة الإنسانية، خصوصاً ما له منها علاقة بالدراسات اللغوية والأنتروبولوجية وعلم النفس وعلم الاجتماع والدراسات الإعلامية وغيرها. ثانيهما، أنه يأخذ بعين الاعتبار النقد الخارجي الذي خضع له الاستشراق الكلاسيكي قديماً وحديثاً. كما يصغي بحساسية إيجابية لعملية النقد الذاتي التي قام بها بعض المستشرقين الذين ينتمون إلى المؤسسة الاستشراقية بمعناها الاصطلاحي المعروف. إن هذه التحولات الإيجابية تضع دارس الاستشراق أمام حقيقة مهمة في مواجهته للظاهرة الاستشراقية، وهي أنه لا يمكن الحديث الآن عن هذه الظاهرة بوصفها تقليداً ثقافياً موحداً، أي تحكمه أنظمة ومقاييس وقيم واحدة. إن الأمر لا يعني وجود استشراقات بعدد المستشرقين، إلا أنه يمكن للمرء أن يميز -على الأقل- بين نوعين رئيسين من الاستشراق: استشراق على النمط القديم، لا يستفيد من التغييرات المهمة التي خضعت لها مؤسسة البحث العلمي في الغرب. ويتابع انغلاقه في وجه التطورات العلمية الحديثة، ولا يمارس أي نوع من النقد الذاتي، سواء على مستوى الموضوع، أم على مستوى شروط وآليات إنتاج المعرفة العلمية. استشراق جديد، ينفتح -على نحو متزايد- على ما يجري حوله من تطورات في مختلف العلوم والمعارف. ويصغي بحساسية وإيجابية لما يوجه إليه من نقد، كما يمارس أيضاً عملية النقد الذاتي في مختلف مراحل إنتاجه للمعرفة. وبالنظر إلى طبيعة الموضوع الذي نحن بصدده، فإننا سنقف عند نموذج من هذه الدراسات التي أنجزت حول تاريخ الأدب العربي. سنقف تحديداً عند كتاب: (التاريخ الجمعي للأدب العربي The Cambridge History of Arabic Literature) الذي أصدرته جامعة كامبريدج في ستة مجلدات. صدر المجلد الأول سنة 1973، وصدر المجلد الثاني سنة 1990. ربما كان من أبرز ما يلاحظه المرء في هذه المادة هو التنوع والمعاصرة في مقاربات المساهمين في كتابتها. ولاشك في أن سعي معظم المساهمين إلى تجاوز الدراسات الاستشراقية التقليدية جعلهم يحاولون الإفادة من آخر تطورات العلوم الإنسانية الأدبية والنقدية في مباشرتهم لنصوص الأدب العربي. ولاشك في أن جميع المزايا التي يلاحظها قارئ المجلدين يؤهل هذا التاريخ ليصبح مرجعاً أساسياً لدارس تاريخ الأدب العربي، لأنه جهد متميز يهدف إلى تقديم المعرفة النوعية في المقام الأول. إن هذا التاريخ حصيلة مجهود جماعي لمجموعة من المتخصصين في دراسة الأدب العربي، من مختلف القارات. منهم المؤرخون المستشرقون، ومنهم المؤرخون العرب. تضم هيئة التحرير الاستشارية متخصصين في الأدب العربي ينتمون لأربع قارات: أمريكا، وأوروبا، وآسيا، وأفريقيا. يعملون في نخبة من الجامعات المعروفة في العالم. من الأسماء الاستشراقية التي ساهمت في هذا العمل، نذكر: ف. بيستون، ودريك ليثام، وسارجنت، وألن جونز، وه.ت، نوريس، وجاك جوميير وإي كولبرغ، ون. ج. كولسون، وج. م. ب. جونز، وم. ج. كيستر، وجيمس، مونرو. وأو. رايت، ل. إي. غودمن، وبوزوروث، وج. د. بيرسون، وه. ن. كندي، وس. إيه. بونبكر، وش. بلا. وم. برغة. وج. ريكس سميث. ور. روبيناتشي. وأ. حموري وم. لينفز، وج. شولر.‏ أما المؤرخون العرب، فنذكر منهم: عبد الله الطيب، ومحمد عبدالرؤوف، وسهير القلماوي، والزبيدي، وسلمى الخضراء الجيوسي، ومحمد مصطفى بدوي، وف. حرب، وعائشة عبد الرحمن، وكمال أبو ديب، وشكري عياد، والشامي وغيرهم. يمتد المجلد الأول في أكثر من خمسين وخمسمائة صفحة ضمت مدخلاً، وأربعة وعشرين فصلاً، وملحقاً بترجمات القرآن للغات الأوروبية، وثبتاً بالمصطلحات الخاصة بدراسة الأدب العربي، وآخر بالمراجع، ومؤشر. يقدم هذا المجلد مادة وافية عن الأدب العربي منذ العصر الجاهلي إلى نهاية العصر الأموي. تتصل هذه المادة باللغة العربية، والكتابة العربية والشعر الجاهلي، والنثر الجاهلي، والقرآن الكريم، والحديث النبوي، وأدب المغازي، وأدب السيرة، والحكايات، والأساطير في العصرين الجاهلي والإسلامي، والشعر الأموي، والشعر والموسيقى وغير ذلك. كما يتتبع المجلد الأول صلات الأدب العربي بالآداب الأخرى المجاورة. فنحن نجد أن الفصول الثلاثة الأخيرة قد خصصت لدراسة التأثير الإغريقي، والفارسي، والسرياني في الأدب العربي في الفترة التي يدرسها المجلد الأول. يضم هذا المجلد ملحقاً بيبليوغرافياً يتضمن ترجمات القرآن الكريم للغات الأوروبية، قدم له البروفيسور (بيرسون) بمقدمة عن الترجمات الشرقية والأفريقية، وبتاريخ موجز للترجمات الأوربية. وختمه بثبت كامل للترجمات الأوروبية للقرآن الكريم شملت ترجماته إلى اللغات الأفريقية، والألبانية، والبلغارية، والدانمركية والبولندية، والإنجليزية، والفنلندية والفرنسية، والألمانية، واليونانية، والهنغارية والإيطالية، واللاتينية، والنرويجية، والبولندية، والبرتغالية، والرومانية، والروسية، والصربية الكرواتية، والإسبانية، والسويدية، مرتبة ترتيباً تاريخياً. وهناك أخيراً ثبت بالمصطلحات العربية المستخدمة في دراسة الأدب العربي ونقده والتأريخ له، امتد في تسع صفحات ييسر استيعاب الجوانب التقنية الخاصة بالأدب العربي على القارئ الذي لا يعرف العربية.‏ أما المجلد الثاني فيقع في سبع عشرة وخمسمائة صفحة تتضمن مقدمة المحررة ومدخلاً تاريخياً وثلاثة وعشرين فصلاً إلى جانب ملحق ببحور الشعر العربي وبيبليوغرافيا ومؤشر.‏ وهو يغطي تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي الممتد من عام 132هـ / 750م عام استلام العباسين للسلطة إلى عام 656هـ/ 1258م عام انهيار سلطانهم وسقوط عاصمتهم بغداد على يد المغول. وفضلاً عن دراسة بعض الظواهر والقضايا العامة في هذا العصر كالشعوبية، ومفهوم الأدب، والخرافات والأساطير، يجد القارئ دراسات موسعة عن أعلام هذا العصر في الشعر والنثر، مثل بشار بن برد، وأبو العتاهية، وأبو نواس، والمتنبي، وأبو فراس الحمداني، وأبو العلاء المعري، وابن المقفع، والجاحظ، والصاحب ابن عباد، وأبو حيان التوحيدي، والهمذاني، والحريري، وغيرهم. كما يضم هذا المجلد دراسات موضوعاتية للشعر السياسي: شعر الغزل، الخمريات، الزهديات، والشعر الصوفي.‏ كما نجد في هذا الجزء اهتماماً واضحاً بالفكر الأدبي السائد في العصر العباسي، وذلك من خلال وقفتين متأنيتين عند النقد الأدبي، مبادئه وقضاياه الأساسية وأبرز أعلامه، وابن المعتز وكتابه البديع.‏

مشاركة :