هكذا تكلم أمل دنقل

  • 5/20/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يعد أمل دنقل أحد أعظم شعراء الحداثة، ولا أتردد في تلقيبه بـ(شاعر القرن العشرين) نظراً لما قدمه من إضافة نوعية للقصيدة العربية، فقد كانَ صوت من لا صوت له، واستطاع أن يطبع ببصمته ديوان الشعر الحديث باعتباره صوتاً متفرداً حلّق خارج السرب، وكانَ تلقيبه بشاعر الرفض دالاً على تميزه هذا، بل لقد عُدّ حامل لواء شعراء الرفض ولذلك توجوه بتاج الإمارة (إمارة الرفض). وزاد على ذلك بأن حمل في شعره الهم القومي، وعبر عن الواقع العربي المرير في كثير من قصائده الخالدة، طامحاً إلى أن يكونَ الشعر وسيلةَ تغيير للواقع واستشراف للمستقبل. ويبقى أمل صوتاً شعرياً متفرداً، ذا خصوصية في الرؤية والتشكيل وصيد اللقطات الهاربة واستغوار الواقع، ولفرط عنايته بموسيقى شعره وتوظيفه الكبير للتراث عُدَّ محيياً للتراث الشعري القديم بطريقة بعيدة عن مفهومي القطيعة والتجاوز.. وقد استطاع بحذقه وعمق رؤيته للواقع ورؤياه لسيرورة تطوره أن يتنبأ بالآتي، ونجح بشكل منقطع النظير أن يوظف التراث بما يخدم القصدية الآنية، وهو في استلهامه للتراث يبين عن وعي شعري غائر ولنا أن نقرأ قصيدته (من مذكرات المتنبي في مصر) وقصيدة (لا تصالح) وغيرها من القصائد الخالدات التي حفرت اسمها بمداد من ذهب في ديوان شعر العرب في القرن العشرين.. حتى نتبين صدق ذلك. اختطّ شاعرنا لنفسه طريقة أعيت غيره من شعراء الحداثة الذي تاهوا بين مطلب الجماهير ومطلب سوق النقد المهيمن، فوجدنا كثيراً منهم يلغي ذاتيته ليحول دفة إبداعه نحو تقليد اتجاه شعري مغرق في الغموض والإبهام، ومن أولئك المتقيلون لطريقة أدونيس.. أمل دنقل نموذج الشاعر الذي خبرَ الواقع وارتمى في معترك الحياة موقناً أن فهمها يتأتى بملامستها مباشرة لا بأخذها من الكتب وأفكار الكُتاب، ونجد في تفاصيل قصائده مشاهد من الحياة اليومية بلغة أقرب إلى لغة الحديث اليومي دون أن تفقد عمقها الدلالي وحمولتها الفنية العميقة. لم يكن أمل دنقل ممن يحبون العبارة الجهورية أو يسلكون طريقة التوعير اللفظي والمعنوي أو يقصدون قصداً إلى التعمية عن طريق سلوك فجاج الإبهام الملتوية تلغيزاً على المتلقي، بل كان يطلق رصاصاته السديدة بلغة تجمع بين البساطة والعمق في آن واحد، لذا وجدنا أشعاره تتسم بما يطلق عليه البلاغيون (السهل الممتنع)، ففي الوقت الذي تبدو العبارة الموظفة سهلة، ويظهر المعنى المعبر عنه سهلاً متناولاً تعيي التجربة من يسلك مثل مسلكه، وهكذا تموقع في موقعة وسطى بين الذين جنحوا بخيالهم الشعري إلى حدود الإبهام وبين من سطحوا معانيهم حتى صارت أقرب إلى النثرية الفجة. وكانَ شاعرنا ممن يعتنون بشعرهم، فلا يخرج قصائده إلا بعد رعاية وعناية وتشذيب، ما يجعلنا نصنفه في خانة عبيد الشعر الجدد، وكذلك ينبغي أن يكون الشاعر الحريص على شعره الذي يحيا بعده.

مشاركة :