أنشئ المركز القومي للأفلام التسجيلية في مصر عام 1967، وترأسه في البداية الصحافي حسن فؤاد ثم سعد نديم ثم صلاح التهامي، على أن تكون مهمته إنتاج الأفلام التسجيلية والقصيرة ثم تغير اسمه فأصبح “المركز القومي للسينما” عام 1981 وترأسه أحمد الحضري، وتوسّع في دوره كثيرا، ولكن دون توفير ميزانية ملائمة له، فأصبح مسؤولا عن مشاركة مصر في المهرجانات السينمائية الدولية، وإدارة الأرشيف السينمائي الذي لم يكتمل أبدا، وإقامة مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة. ولعل السنوات الأولى التي أعقبت إنشاء المركز كانت الأكثر نشاطا، بسبب تعيين مجموعة متميزة من خريجي معهد السينما للعمل في تصوير وإخراج الأفلام لحساب المركز. من هؤلاء مخرجون مثل: داود عبدالسيد وفؤاد التهامي وحسام علي وهاشم النحاس وعبدالمنعم عثمان وشريف صبري وفؤاد فيض الله وسيد عثمان ومحمد عماد الدين وعاطف الطيب وعنان نديم ومحمود سامي عطا الله وشعبان إبراهيم ونبيهة لطفي، والمصوّر سعيد شيمي، والمونتير أحمد متولي، وآخرين. وقد عرض النادي الكثير من الأفلام القصيرة التي صنعها هؤلاء، في النصف الأول فقط من عام 1973،هذا العام الذي أعتبره -لأسباب كثيرة- من أكثر أعوام النادي تألقا وكثافة وتميزا في النشاط، وفيه شاهدنا عددا من أفضل الأفلام التي ظهرت في كل العصور. الفيلم التسجيلي الأول في العرض الأول للنادي، الأربعاء 3 يناير 1973، شاهدنا الفيلم التسجيلي القصير “تي” (7 دقائق) إخراج أحمد فؤاد درويش (وكان في السادسة والعشرين من عمره) وتصوير علي الغزولي (كان في الثامنة والعشرين من عمره). وعرض الفيلم قبل الفيلم الروائي الطويل “الرجل الكبير الصغير” (Little Big Man) للمخرج الشهير آرثر بن (مخرج بوني وكلايد). وهو من إنتاج 1970، وبطولة داستين هوفمان وفاي دوناواي وريتشارد موليغان. وكان يوسف شريف رزق الله هو الذي كتب تحليلا له، وختم مقاله بقوله “إن آرثر بن بفيلمه: الرجل الكبير الصغير، يشير إلى أن المدنية التي ولدت من حرب الإبادة والتي لا تعيش إلّا على حروب إبادة أخرى، محكوم عليها بأن تقضي على نفسها بنفسها”. وقد عدت لمشاهدة هذا الفيلم مرات ومرات بعد ذلك، وأغرمت به كثيرا، وكان من الأفلام القليلة التي خرجت من هوليوود، التي أظهرت احتراما كبيرا لثقافة وتاريخ وتقاليد الذين يطلق عليهم “الهنود الحمر”، وما هم بهنود، ولا بحمر! نعود إلى اهتمام النادي بالأفلام القصيرة، لكي نرى أنه في الأسبوع التالي مباشرة عُرض فيلم “سوق ميلانو” وهو تسجيلي إيطالي (20 دق)، والغريب أن النشرة لا تذكر أي معلومات عنه ولا حتى اسم مخرجه. عام 1973، كان من أكثر أعوام النادي تألقا وتميزا في النشاط، ففيه عرضت أفضل الأفلام التي ظهرت منذ نشأة السينما أما فيلم “كهربة الريف” فكان من الأفلام الأولى للمخرج أحمد راشد، ومن تصوير سعيد شيمي الذي يعتبر القاسم المشترك لأفلام ذلك الجيل الجديد من خريجي معهد السينما الذين كانوا قد بدأوا يضعون أقدامهم على سكة الإخراج. لكنه ارتبط أيضا بصداقة وطيدة مع محمد خان قبل أن يصبح خان مخرجا، أي منذ سنوات الطفولة، وظل يتبادل معه الرسائل بعد أن ذهب خان إلى لندن حيث أقام لعدة سنوات. وقد نشر سعيد شيمي مجموعة الرسائل المتبادلة بينهما في ثلاثة كتب. وفي عام 1973 شاهدنا في نادي السينما فيلم “البطيخة” الذي أخرجه محمد خان في العام السابق وهو أول أفلامه على الإطلاق كمخرج، وصوره سعيد شيمي ويقع في 9 دقائق. وفي العدد 22 من نشرة النادي وفي سياق رصده وتعليقه على الأفلام التي شاركت في مهرجان الأفلام المصرية القصيرة والتسجيلية، كتب سامي السلاموني باقتضاب عن “البطيخة”، فقال “لقطة شديدة الذكاء والصدق من واقعنا: الموظف المطحون طوال يومه في العمل ونداءات زوجته وأولاده تطارده مطالبة بكل الأشياء بما فيها شراء بطيخة للأولاد ومغامرة شراء البطيخة نفسها وركوب الأوتوبيس والوصول بها أخيرا إلى البيت وكأنها كنز، ولحظة الطعام التي تصبح متعة حياتنا الوحيدة، وتنتهي في المرة الأخيرة البطيخة بالأفواه ويبقى الكادر ثابتا كأنما يتساءل: وماذا بعد؟ رغم المستوى المتواضع للفيلم كعمل سينمائي إلّا أن قيمته الأولى في صدقه الشديد واقتحامه الواقع المصري وتقديم شريحة سريعة شديدة البساطة من هذا الواقع الذي يحسّه جيدا محمد خان المخرج الذي عاش في مصر سنوات عديدة بحيث لم يفقد قدرته على الإحساس بالروح المصرية وفهمها بحب شديد، رغم سنوات عديدة أخرى عاشها في لندن، ولكنه بقي مصريا أكثر من كثيرين منا يعيشون معنا كل يوم، ولكنهم ينسون في أفلامهم كيف نعيش”. الطريف أن محمد خان نفسه كان قد أرسل رسالة من لندن إلى نشرة النادي نشرت في العدد 7 (بتاريخ 21 فبراير 1973). أوجز هنا ما ذكره فيها لدلالتها بالنسبة لأسلوب محمد خان السينمائي بعد أن أصبح مخرجا محترفا للأفلام الطويلة في ما بعد. بدأ خان بالإشارة إلى مقال الناقد سمير فريد في جريدة “الجمهورية” الذي ذكر فيه أن “البطيخة” هو أول فيلم مصري يخرج بالكاميرا إلى الشارع، وأبدى خان استغرابه الشديد من هذه المعلومة، وقال إن الفيلم المصري الطويل يستغل الشوارع كمجرد إكسسوارات فقط لمواضيعه أو وسيلة للانتقال من فترة لأخرى، لكن يمكن أن تمد الشوارع مواضيع الأفلام بالحياة.. ونفى أن يكون استخدام الشوارع قد جعل فيلمه تسجيلي الطابع، مؤكدا أنه من نوع الدراما التسجيلية فقط لأنه استخدم التعليق الدرامي على فكرة واقعية المصدر في المشهد الأول. وأوضح خان أن المشاهد الخارجية كلها صوّرت في 5 ساعات من يوم واحد، ورغم ذلك تمكن سعيد شيمي “أن يسرق بكاميرته جو الشوارع، واضطر المونتير أحمد متولي إلى حذف بعض اللقطات بسبب تدخل المارة الراغبين بإصرار في الظهور أمام الكاميرا”! طبعا مسألة إصرار الناس على الظهور في الصورة وتعطيل التصوير كانت من ضمن الأشياء التي أثارت ضيق محمد خان. لكنه كان يتغلب عليها ويحصل على ما يريد من التصوير في المواقع الخارجية. ويشرح خان في رسالته كيف اتفق مع سعيد شيمي على كسر الطابع التسجيلي بجعل حركة الكاميرا أسرع من حركة الممثل على أن تسير “في حركة موازية مائلة، حيث تنتهي اللقطة بمواجهة الموظف للكاميرا وهي تتراجع للخلف”. عشرة أفلام قصيرة في 2012 كنت أعمل مديرا للدورة الـ15 لمهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة في مصر. وجاءت فكرة تخصيص أمسية لعرض عشرة أفلام قصيرة قديمة أخرجها مخرجون أصبحوا اليوم من مشاهير المخرجين. وقد أخذنا نختار الأفلام ونبحث في ما خفي من أمرها، على أن يتولى المركز القومي للسينما مهمة ترميمها وطبع نسخ رقمية منها لعرضها. وكانت كلها ضمن قائمة الأفلام التي يمتلكها المركز. كانت الأفلام العشرة هي: “النيل أرزاق” لهاشم النحاس، “وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم” لداود عبدالسيد، “حياة جديدة” لأشرف فهمي، “صلاة من وحي مصر العتيقة” لنبيهة لطفي، “مقايضة” لعاطف الطيب، “نمرة 6” لصلاح أبوسيف، “عم عباس المخترع” لعلي بدرخان، “العمار” لعبدالمنعم عثمان، “طبيب في الأرياف” لخيري بشارة، وأخيرا “البطيخة” لمحمد خان. جاء محمد خان وأحضر معه نسخة من “البطيخة” -الفيلم بالطبع لا الفاكهة- وعلى الفور كلفت صديقي محمود عبدالسميع مدير التصوير الموهوب وراهب السينما الذي كان يعمل معي تطوعا، بتولي مهمة تنقية النسخة، لكنه عاد في اليوم التالي حزينا وقال إن النسخة هي شريط الصوت فقط من دون شريط الصورة، أي أن “البطيخة” ليس عندنا. وشعرت بصدمة. وكان المطلوب العثور في أسرع وقت على شريط الصورة الذي كان منفصلا بتقنية تلك الأيام. واقتضى الأمر التفكير في بعض الاتصالات التي قام بها سعيد شيمي ومحمد خان، ثم رحلة إلى الإسكندرية، حيث عثر خان بمعجزة على شريط الصورة في مخزن السقف المهجور (الصندرة) في شقة المونتير أحمد متولي، فتم ضم النسختين معا واستخراج نسخة رقمية (ديجيتال) من الفيلم الذي عرض للمرة الأولى منذ أن عرض في السبعينات، في مهرجان الإسماعيلية تلك السنة! وقد أهدينا نسخة رقمية من الفيلم إلى مخرجه محمد خان كما طلب، وأنقذنا الفيلم من الضياع، وبهذا ضربنا المثل في أن مهرجانات السينما لا يجب أن تكتفي بـ”استهلاك الأفلام” بل بالبحث عن المفقود منها وإنقاذها وترميمها واستعادتها أيضا، طالما أننا لا نمتلك حتى الآن “السينماتيك” الحقيقية!
مشاركة :