شكل صعود قيمة الجنيه المصري أمام الدولار قبل أيام من دخول العام الجديد بشرى سارة للكثيرين رغم أنه يخفي وراءه تحديات قد تكون مقلقة. وارتفع الجنيه مساء الاثنين الماضي بنحو ستة قروش مقابل الدولار ليعزز مكاسبه التي بلغت ما يزيد عن 11 بالمئة منذ بداية العام مسجلا أعلى مستوياته في نحو ثلاث سنوات في ظل تباين توقعات المحللين لأدائه في العام المقبل. وعزت صحف محلية الثلاثاء في صدر صفحاتها الأولى تحرك العملة المحلية على لسان مصادر لم تسمّها إلى الانعكاسات الإيجابية للاتفاق التجاري بين الصين والولايات المتحدة. وأشارت إلى أن ذلك الأمر ساهم في تدفق أموال الصناديق الدولية بغزارة للأسواق المالية العالمية ومنها السوق المصرية التي اجتذبت نحو 490 مليون دولار كاستثمارات من صناديق الاستثمار الدولية. ووجدت الأموال الساخنة فرصة نادرة في جني تلك الفوائد المفرطة دون مخاطر تذكر في ظل استقرار سعر الجنيه منذ تعويمه في نهاية 2016، مقابل التزامات باهظة على الحكومة عند رحيل تلك الأموال مع مكاسب الفوائد المرتفعة. ونسبت وكالة رويترز لكبير محللي الاقتصاد الكلي لدى المجموعة المالية هيرميس محمد أبو باشا قوله إن “العائد على الأذون والسندات مازال مرتفعا نسبيا ومغريا للمستثمرين الأجانب خاصة في ظل انخفاض معدل التضخم”. وأضاف “توقعاتنا للجنيه في 2020 أن يصل إلى متوسط السعر عند حوالي 16.25 جنيه مقابل الدولار”. واقتربت مكاسب سعر العملة المحلية منذ بداية العام الحالي إلى نحو 199 قرشا مقابل الدولار. وتجذب مصر بين حين وآخر استثمارات أجنبية في أدوات الدين الحكومية قصيرة الأجل، لكن تتذبذب خروجا ودخولا في المعتاد. ولم تستطع بعد جذب استثمارات أجنبية مباشرة بنفس أرقام ما كانت عليه قبل يناير 2011. وقال مدير قطاع الخزانة بأحد البنوك الحكومية والذي طلب عدم نشر اسمه لرويترز إن “ارتفاع الجنيه يعود إلى التدفقات النقدية للأجانب قبل بداية عطلات أعياد الميلاد”. وأضاف أن “التدفقات النقدية للأجانب في ديسمبر غير معتادة ولكنها جاءت هذا العام قبل بداية العطلات بسبب تراجع سعر الفائدة في تركيا بنحو 2 بالمئة منذ أيام بالإضافة إلى الاتفاق الأميركي الصيني وكلها عوامل زادت من جاذبية السوق المصرية”. واعتاد البنك المركزي على أن يعزو المسار الصاعد للجنيه أمام الدولار منذ يناير إلى زيادة التدفقات النقدية الدولارية، في حين يقول بعض المصرفيين إنه نتاج تدخل مباشر من المركزي، الأمر الذي ينفيه الأخير. وقال عمرو الألفي رئيس قطاع البحوث في شعاع لتداول الأوراق المالية عن أحدث صعود للعملة المصرية “الجنيه يواصل ارتفاعه المسجل في الآونة الأخيرة، وقد نراه عند مستوي 15.5 جنيه قبل أن يبدأ في التراجع في نهاية 2020”. وترى رضوى السويفي رئيسة قطاع البحوث في بنك الاستثمار فاروس إن إيرادات السياحة واستثمارات الأجانب في أدوات الدين ربما تمثلان السبب الأساسي في ارتفاع الجنيه، متوقعة أن يصل متوسط سعر الجنيه مقابل الدولار إلى 16.37 جنيه في 2020. وكان المركزي قد حرر سعر صرف الجنيه في نوفمبر 2016، عندما كان سعره 8.88 للدولار، في إطار برنامج إصلاح اقتصادي ارتبط بقرض قيمته 12 مليار دولار لمدة ثلاث سنوات من صندوق النقد الدولي. وسجلت العملة أضعف مستوياتها عقب تحرير سعر الصرف عند 19.62 في ديسمبر من ذلك العام. وقال ولي الدين لطفي نائب العضو المنتدب في بنك كريدي أغريكول مصر “كل المؤشرات تشير إلى أن البلد تسير على الطريق الصحيح، فثمار الإصلاح بدأت في الظهور… وكل الدلائل تشير إلي تحسن موقف الجنيه مقابل الدولار”. وأوضح أنه وبشكل عام فمعدل العائد مقابل المخاطر في مصر يُعتبر جاذبا للاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين العام مقارنة بالأسواق الناشئة المنافسة. وأبلغ محمد معيط وزير المالية رويترز في سبتمبر الماضي أن صافي استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية بلغ 20 مليار دولار منذ تحرير سعر الصرف وحتى نهاية أغسطس الماضي، ولم تعلن مصر منذ ذلك الحين أيّ أرقام حديثة لاستثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية. وتعتمد القاهرة على الاقتراض الخارجي واستثمارات الأجانب في أدوات الدين في توفير الدولار بجانب المصادر الأساسية مثل إيرادات قناة السويس والسياحة وتحويلات المغتربين والصادرات التي لم تشهد نموا يعكس أهمية تحرير سعر صرف الجنيه. وتواجه الحكومة جدولا صعبا لسداد الديون الخارجية خلال العامين القادمين، وهي تحاول توسيع قاعدة مستثمريها وتمديد أجل استحقاق ديونها والاقتراض بفائدة أقل. وقالت مونيت دوس محللة الاقتصاد الكلي وقطاع البنوك في أتش.سي “ننظر لارتفاع الجنيه مقابل الدولار على نحو إيجابي كمؤشر لاستمرار تدفقات العملة الأجنبية على الاقتصاد المصري”. وأرجعت ذلك بالأساس إلى قطاع السياحة سريع النمو وتحول مصر إلى مُصدّر صاف للنفط وتدفقات مستدامة على سندات الخزانة المصرية رغم تراجع أسعار الفائدة. وزادت إيرادات السياحة المصرية 28.6 بالمئة في السنة المالية 2018-2019 لتصل إلى 12.6 مليار دولار مقارنة مع 9.8 مليار دولار في 2017-2018، وفقا لبيانات البنك المركزي. وتابعت دوس “بالنظر إلى المستقبل، نعتقد أننا سنرى انخفاضا بنسبة خمسة بالمئة في الجنيه المصري بسبب فارق التضخم بين مصر وشركائها التجاريين”. وأكدت أنها تتوقع أن يبلغ التضخم في مصر حوالي 8 بالمئة خلال العام المقبل بينما سيسجل 2 بالمئة لدى الشركاء التجاريين. وأشارت إلى أن التراجع المستمر في أسعار الفائدة قد يفضي أيضا إلى تدفقات منخفضة نسبيا على سوق الدين المصرية. هذان العاملان قد يعوضهما عمليا إنتاج بترولي وتدفقات أجنبية مباشرة وسياحة أعلى من المتوقع. وشهد الاقتصاد المصري معدلات نمو مرتفعة خلال الفترة الماضية مع انخفاض عجز الموازنة وتحقيق فوائض أولية لكن صاحبت ذلك زيادة الدين الخارجي 17.3 بالمئة إلى 108.7 مليار دولار بنهاية يونيو الماضي ليعادل 36 بالمئة من الناتج الإجمالي في 2018-2019. وقال إيهاب رشاد نائب رئيس مجلس إدارة مباشر كابيتال هولدنغ للاستثمارات المالية لرويترز إن “أيّ تراجع في سعر الدولار يقلل من تكلفة سداد الديون الخارجية”. وارتفع إجمالي الدين المحلي إلى 4.2 تريليون جنيه بما يعادل 79 بالمئة من الناتج الإجمالي في نهاية مارس الماضي، وهو أحدث رقم متوافر، مقارنة مع 3.7 تريليون جنيه في نهاية يونيو العام الماضي أو 83.3 بالمئة من الناتج الإجمالي. وأضاف رشاد “ارتفاع الجنيه مقابل الدولار لن ينعكس بشكل سريع على الأسعار مثلما حدث عند انخفاضه وقت تحرير سعر الصرف ولكن سيحتاج لمزيد من الوقت حتى يشعر المواطن بتراجعه… أتوقع ارتفاع الجنيه إلى نطاق 15.7 جنيه مقابل الدولار في 2020”. ويشكو المصريون، الذين يعيش الملايين منهم تحت خط الفقر، من صعوبات في تلبية الحاجات الأساسية بعد قفزات متتالية في أسعار الوقود والدواء والمواصلات وجميع السلع والخدمات إثر برنامج إصلاح اقتصادي نفذته مصر بالتعاون مع صندوق النقد منذ أواخر 2016 وحتى يونيو الماضي. وزادت نسبة الفقر في مصر خلال العام المالي 2017-2018 إلى 32.5 بالمئة من 27.8 بالمئة في 2015. ويبلغ خط الفقر 8827 جنيها للفرد في السنة وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. ويدعم صعود الجنيه أيضا تحويلات المصريين العاملين في الخارج، والتي ارتفعت 13.6 بالمئة على أساس سنوي في الربع الأول من السنة المالية 2019-2020 بقيمة 803.6 مليون دولار لتبلغ نحو 6.7 مليار دولار مقابل 5.9 مليار دولار تقريبا خلال نفس الفترة من السنة المالية السابقة. وذكر المركزي في بيان الثلاثاء أن التحويلات ارتفعت في سبتمبر بنحو 33.2 بالمئة على أساس شهري بما يعادل 581.2 مليون دولار لتبلغ نحو 2.3 مليار دولار مقابل 1.8 مليار دولار تقريبا في أغسطس الماضي.
مشاركة :