البنوك المركزية وهيئات التنظيم المالي بدأت تأخذ تغير المناخ في الحسبان، وأصبح تغير المناخ حقيقة واقعة. فالأعاصير متزايدة الحدة وموجات الجفاف المطولة تؤديان إلى تدمير البنية التحتية واضطراب سبل المعيشة وتسهمان في هجرة أعداد كبيرة من السكان. ومن شأن تدابير مكافحة ارتفاع درجات الحرارة، رغم عدم كفايتها حتى الآن، زعزعة عالم الأعمال عندما تنتبه شركات الوقود الأحفوري العملاقة للحاجة إلى مصادر متجددة للطاقة ويعجل مصنعو السيارات بالاستثمار في سيارات أكثر نظافة وحفاظا على البيئة. ولا يزال العمل جاريا على قياس التكلفة الاقتصادية لتغير المناخ. فرغم أننا نستطيع تقييم التكلفة المباشرة لتغير أنماط الطقس وزيادة تواتر الكوارث الطبيعية وكثافتها، إلا أن الجزء الأكبر من التكلفة المحتملة لا ينشأ سوى لاحقا ولا يمكن تقييمه خلال الإطار الزمني للتحليلات الاقتصادية المعتادة. ومن المرجح أن يتسارع ظهور الآثار الاقتصادية لتغير المناخ، لكن بوتيرة متفاوتة. ويعد ذلك أمرا مصيريا للأجيال المقبلة نظرا لأن حجم الضرر سيعتمد على الاختيارات التي نقوم بها اليوم على صعيد السياسات. وقد ازداد إدراك صناع السياسات والمستثمرين للانعكاسات المهمة لتغير المناخ على القطاع المالي. ويؤثر تغير المناخ في النظام المالي من خلال قناتين أساسيتين وتنطوي الأولى على المخاطر المادية الناتجة عن الأضرار التي تلحق بالممتلكات والبنية التحتية والأراضي. أما القناة الثانية فتتمثل في المخاطر الانتقالية التي تنشأ عن التغيرات في السياسات المناخية والتكنولوجيات والشعور السائد على مستوى المستهلكين والأسواق خلال فترة التكيف مع اقتصاد منخفض الكربون. ومن الممكن أن تتفاوت المخاطر تفاوتا كبيرا من بلد لآخر. وعادة ما تكون الاقتصادات الأقل دخلا ومتوسطة الدخل أكثر عرضة للمخاطر المادية. وبالنسبة للمؤسسات المالية، يمكن أن تتحقق المخاطر المالية على نحو مباشر من خلال انكشافها للشركات والأسر والبلدان التي تشهد صدمات مناخية، أو على نحو غير مباشر من خلال تأثير تغير المناخ في الاقتصاد الأوسع والآثار المرتدة داخل النظام المالي. وتتجلى هذه الانكشافات في صورة زيادة مخاطر التعثر في حوافظ القروض أو تراجع قيمة الأصول. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي ارتفاع منسوب مياه البحار وزيادة تواتر أحداث الطقس المتطرفة إلى خسائر لمالكي المنازل وانخفاض قيمة العقارات، ما يزيد بالتالي حجم المخاطر في حوافظ القروض العقارية. وتواجه حوافظ ائتمان الشركات مخاطر أيضا كما يتضح من واقعة إفلاس شركة باسيفيك للغاز والكهرباء، وهي الشركة الأكبر على الإطلاق في قطاع المرافق في كاليفورنيا. وصفت جريدة "وول ستريت جورنال" الواقعة بأنها أول "حالة إفلاس نتيجة تغير المناخ" حيث أدت التغيرات المناخية السريعة إلى موجات جفاف مطولة في كاليفورنيا أسهمت بشكل كبير في زيادة مخاطر الحرائق الناتجة عن عمليات الشركة. وقد يترتب على ذلك تشديد الأوضاع المالية في حالة قيام المصارف بتخفيض الإقراض، ولا سيما عندما تؤثر الصدمات المناخية في عديد من المؤسسات بشكل متزامن. وبالنسبة لشركات التأمين وإعادة التأمين، تعد المخاطر المادية مهمة على جانب الأصول، لكن ثمة مخاطر تنشأ أيضا على جانب الخصوم نظرا لأن بوالص التأمين تؤدي إلى مطالبات أكثر تواترا وحجما مما كان متوقعا في الأصل. وتوجد شواهد على أن الخسائر الناتجة عن الكوارث الطبيعية تتزايد بالفعل. ونتيجة لذلك، يرجح أن ترتفع تكلفة التأمين أو تتوقف شركات التأمين عن تقديم خدماتها في أنحاء العالم التي تواجه هذه المخاطر. ومن الممكن أن يجعل تغير المناخ المصارف وشركات التأمين وشركات إعادة التأمين أقل تنوعا، نظرا لأنه يزيد احتمالات وقوع الأحداث التي كانت تعد في السابق غير مرتبطة ببعضها بعضا أو من تأثير هذه الأحداث، مثل موجات الجفاف والفيضانات. وتتحقق المخاطر الانتقالية على جانب الأصول لدى المؤسسات المالية التي قد تتحمل خسائر بسبب انكشافها للشركات التي لا تراعي نماذج العمل الخاصة بها اقتصاديات خفض انبعاثات الكربون. وفي عالم يتجه نحو إقامة اقتصاد عالمي منخفض الكربون، قد تجد شركات الوقود الأحفوري غير قابلة للحرق نفسها مكبلة باحتياطيات ضخمة كما وصفها مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا، عام 2015. وقد تعاني هذه الشركات تراجع إيراداتها وتعطل عملياتها وارتفاع تكلفة التمويل بسبب تدابير السياسات والتغيرات التكنولوجية ومطالبة المستهلكين والمستثمرين هذه الشركات بالالتزام بسياسات مكافحة تغير المناخ. فشركات إنتاج الفحم - على سبيل المثال- اصطدمت بالفعل بالسياسات الجديدة أو المتوقعة التي تفرض قيودا على انبعاثات الكربون، وتعهد عدد من المصارف الكبرى بعدم تمويل محطات الفحم الجديدة. وتعكس أسعار أسهم شركات تعدين وارتفاع "خصم الكربون" الفحم الأمريكية ما يطلق عليه تكلفة التمويل، وتراجع أداؤها مقارنة بالشركات المالكة لأصول الطاقة النظيفة ... يتبع.
مشاركة :