يلجأ مخرجو الأفلام السينمائية كثيرا إلى استخدام صورة سفينة تمخر مياه البحار متوهجة يكتنفها الغموض، على نحو لا يمكن تمييزها عن الضباب للإشارة إلى سفينة مهجورة أو رعب محتمل، لكن البحر المتوهج ليس مجرد ظاهرة سينمائية. كتب القبطان رفائيل سيميز، من قمرته على متن السفينة "سي أس أس ألاباما"، عام 1864 عن تجربة مروره "عبر مياه زرقاء عميقة في غاية التوهج لدرجة تثير الدهشة... بدا لي أن وجه الطبيعة قد تغير بالكامل، وبقليل من التخيل، ربما بدت ألاباما كسفينة أشباح يضيئها وهج شاحب خارق للطبيعة يصدر عن بحر يعج بأشباح..." يعد الإبحار في مياه "البحر المتوهج" لساعات طويلة، بالنسبة للبحارة الذين يعتقدون بشدة في وجود وحوش البحار، أو عرائس البحار، من الأشياء المرعبة للغاية. ويكمن سبب حدوث ظاهرة البحر المتوهج في وجود مليارات التريليونات من البكتريا التي تصدر ضوءا حيويا، وتعيش في بقعة من المياه تمتد من السطح حتى قاع البحر. ولم يكن لدى البحارة الذين تملكتهم الدهشة طوال القرن التاسع عشر أدنى فكرة عن سبب حدوث هذه الظاهرة، بيد أنهم كانوا متأكدين من أنه شيء شرير ونذير شؤم. وقد وصفوه أحيانا كما لو كان حليبا مسكوبا، أو سحبا تمتد من الأفق إلى الأفق، تتخلل رصاصا منصهرا أو تبحر في حقل من الجليد. ويعد فهمنا للظاهرة اليوم أكثر عمقا، ولكن الغموض مازال يكتنف سبب وكيفية حدوثها. مصدر الصورةGetty Images ويصف ستيفين ميلر، كبير العلماء الباحثين في جامعة كولورادو، الإضاءة الحيوية بأنها "كالحوت الأبيض الذي تستشعره الأقمار الصناعية عن بعد"، وقد عجزت أجهزة الاستشعار السابقة عن رصده، بيد أن الأدوات والأجهزة التي يستخدمها ميلر تستطيع قياس المستويات الخافتة من الضوء التي تصل إلى المياه، مثل ضوء القمر. وتعد أكثر مشاهد الأقمار الصناعية التي حصل عليها ميلر تلك التي جاءت عام 1995 من تقرير للسفينة "ليما"، فبينما كانت تبحر قبالة سواحل الصومال، أشار قبطان السفينة "ليما" إلى وهج أبيض اللون يلمع في الأفق، تبعه وهج في المياه بعد 15 دقيقة، على نحو أعطى البحر انطباعا كما لو أنه تحول إلى حقل ممتد من الجليد. وقام ميلر بزيارة أرشيف لصور الأقمار الصناعية التي التقطت في السابق لتلك المنطقة ليرى إذا كان فيها شيئا يمكن رؤيته لهذه الظاهرة، ولدهشته الكبيرة أمكنه رؤية "بقع" في المياه، وهي أول صورة مؤكدة لإضاءات حيوية لبحر متوهج. وصل المدى الذي غطته الظاهرة إلى ما يعادل مساحة ولاية كونيتيكت الأمريكية، أو 15 ألف كيلومتر مربع. يقول ميلر: "لم نحل بعد سر البحار المتوهجة. استطعنا فقط رصدها، لكن لا يوجد دليل ملموس على كيفية حدوثها ولماذا تتكون أصلا. نحن فقط نريد أن نعرف عنها أكثر بكثير مما نعرفه حاليا". ويستخدم فريق ميلر الأقمار الصناعية لرصد موقع آخر لتلك الظاهرة، ومن ثم أخذ عينات لدراسة الظاهرة بشكل أكثر عمقا. وهناك أيضا ظواهر بحرية أخرى ساحرة، من بينها المد الأحمر حول فلوريدا، ونمو الطحالب الكثيف على امتداد محيطات العالم، ومازال هناك الكثير من الأمور التي لم تكتشف بعد. وكانت وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"قد أعلنت أن العلماء يعرفون عن الفضاء أكثر مما يعرفون عن المحيطات في الأرض. وعلى الرغم من وجود كل التقنيات في العالم، سيكون قبطان السفينة القادر على أن يمخر عباب بقعة متوهجة في المياه دون أن يخطر بباله الخوف من وجود "تنانين بحرية" شجاعا وجسورا. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Earth
مشاركة :