شعرية السيرة وسيرة الشعر

  • 12/20/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ينطوي هذا الديوان على رؤية شعرية متماسكة تنتظم مختلف قصائده فهي عصارة تجربة حياة متكاملة ،يتخذ من الزمن محورا يستقطب تأملاته العميقة لعمرطويل انساب في سلسلة من المراحل مثّلت خلاصة فكرية وجدانية لتلك الحلقات التي صاغت نصوصها وشكّلت خطابها الشعري فتوفرت فيها الوحدة والانسجام والتماسك، وهي عناصر فنية ورؤيوية من شأنها أن تمنح النصوص هويته الجمالية، ففي آخر قصيدة في الديوان تتضح فلسفة الشاعر في حديثه عن الموت في سلسلة مترابطة يستعرض فيها محطات تتجاوز المشاهد الوصفية الحسية والتفاصيل الجزئية معيدة إنتاجها في رؤى شعرية وامضة، مستثمرا ظاهرة بلاغية تتعلق بنظم الكلام وهي ظاهرة التفصيل بعد الإجمال،وظاهرة أخرى فكرية هي التوليد المستمر والتثمير المتواصل؛ ففي الجملة الشعرية الاستهلالية يوجزموقفه من الموت متجاوزا دلالاته الظاهرة مستبطنا لمغزاه عبر تجربته الخاصة، ينزاح بمعناه وينقلب عليه في مفارقة حافلة برؤية ثاقبة، في وقت تعترف فيه بسطوته وتستمهله. اختار للقصيدته الأولى عنوانا (تمثال الماء) وكأنه يستصفي نقطة البدء شفافة بلا لون ولا رائحة سوى رائحة النقاء، تمثال من البراءة التي اغتسلت بماء الإبداع نقية صافية، فما بين الوجود والعدم تتداعى خرزات الوقت، هكذا يبدأ وينتهي العمر فتتماسك الحلقات عبر خيط الزمن الممتد ما بين البدايات والنهايات؛ فالديوان عمل شعري تربطه وحدة عضوية تمتد بأنساغها ما بين الجذور والغصون،تعتمد المفارقة ا وهي جوهر الفن سبيلا؛ فانزياحاتها تصنع إبداع الشاعر الذي يجنح إلى منهج استعاري تتماهى فيه تجربة الشاعر الفنية والحياتية ناسجة رؤاها الخاصة من خلال سلسلة من المحطات : في خرز الوقت قصيدة ما بعد البدايات تبدأ رحلة التداعيات في مشاهد تتوالى حلقة بعد أخرى تحمل بكارة الذكريات، وتنداح بعيدا عن البوح لتوغل في جسد اللغة باحثة عن أساطيرها التي تتمثّل منعطفاتها وتعبر عن تجلياتها؛ فمن أنكيدو إلى عشتار إلى جلجامش وسرفانتس، موازاة بين الواقع والخيال، خطّان متوازيان متقاطعان ينتظمهما الوقت في جوهره، يجدل خيوطه من حلمه الخاص وعالمه المذخور وأطياف واقع يتراءى خلف ضباب الكلمات لا يكاد يبين، ثم يستكنّ في مشاهد لا تكاد تحجبها مفرداته الشعرية الخاصة الحبلى بالدلالات أمشاج من الرؤى والأطياف والتجليات تتفجر بها الكلمات تتسلسل في انتظامها كخرز القلادة لا تكاد تفرّ واحدة منها خارج السياق. ثم يمضي فتتماهى المرأة مع القصيدة؛ ولكن الحضور الأنثوي يظل طاغيا بجماله وإلهامه منذ بداية الديوان، وليس من الصعوبة بمكان أن تخطئ تضاريس وجودها الدائم في القصيدة، وكأنها تنتقل حيّة من واقع الشاعر إلى إبداعه، فهي تتسلّل بصبواتها وخطاياها إلى نسيجه الشعري، هاجسه الدائم الذي يتبدّى عبر المشاهد الحسية والروحية وكما يمتزج الحسّي بالمعنوي يتداخل الخرافي بالأسطوري والفانتازي بالواقع؛ هكذا تبدو الصورة في ثرائها وخصوبتها حيث تتسلل العنقاء وتوقد مواعيد الخرافة، هذا الانحراف الدلالي يوقد شعلة المعنى في أقبية القصيدة، وهذا الزج الفريد بين الأشياء والانفعالات والتفاصيل الأخرى في صنع هذه الفوضى الإبداعية التي تعيد ترتيب ذاتها هي صانعة هذا الإبداع في خاتمتها؛ حيث الماء بدلالات الطهر حين ينساب على جسد الجمال، والوقت حين يتدفق صانعا عالما آخر محتفيا بالجمال والجلال حين يفر من معناه عريانا نحيلا بلا لغة ولا أسماء صفاء مجرد من الكدر ومن التحديد والتعيين، نقاء خالص، تتفلّت الرؤيا من كل الأطر لتصافح الجمال مجردا صافيا في تلك المشاهد الناصعة كالبلور الشفاف وبكارة البدايات .

مشاركة :